قال لي: لقد أيدت
السلطة الحالية من البداية وكنت فخورا بتفويضها للقضاء على الإرهاب وشجعت كل ممارساتها وسياساتها اعتقادا مني أن هذا سيؤمن مستقبلا استثماراتيا ويضاعف ثروتي بعد عدة سنوات من الكساد، حتى المشروعات الكبرى التي أعلنت عنها السلطة.
كنت من أشد المروجين لها والداعمين ورغم ما كنت ألقاه من بعض أصدقائي وأقاربي من نقد واتهام بالتطبيل ونفاق السلطة إلا أنني كنت على يقين أن غدا سيكون أفضل وأن أفضل ما أقدمه الآن للوطن ولنفسي وأبنائى أن أحتشد خلف السلطة وأوافق وأؤيد كل ما تقوله دون نقاش أوتشكيك، كان بداخلي رغبة جارفة في أن أشعر بالأمان والاستقرار، لأن الاستثمار قرين الاستقرار، كانت الأيام تمر دون تقدم ملحوظ وكنت أُصبر نفسي وأقول نحتاج لمزيد من الوقت، لكن الوقت طال والركود تصاعد ثم فوجئت أن الدولة اقتحمت كل مجالات الاستثمار واحتكرته لنفسها بما لها من إمكانيات ومزايا لا تتوفر لغيرها من الكيانات والأفراد، التوكيلات المتخصصة التي أحوزها من عصر مبارك لم أعد قادرا على الاحتفاظ بها.
فوجئت أنه تم تجريدي من كل شيء، أزمة الدولار جعلتني عاجزا عن الوفاء بالتزاماتي المالية وعراقيل الجمارك والضرائب الجديدة جعلتني أفضل الانسحاب من السوق قبل أن أخسر كل ما تبقى لدي من رأس مال! أنا الآن بائس وعاجز عن فعل أي شيء، إذا كان لدي خوف قبل ذلك فقد تضاعف اليوم آلاف المرات، لا أرى أي أفق للمستقبل، قد يكون الحل الوحيد لإنقاذ وضعي المادي وتأمين مستقبل أبنائي أن أخرج من
مصر بلا عودة، فلا أمل هنا ولا مستقبل!!
كان هذا حديث رجل أعمال يعمل بالقطاع الطبي ويمتلك عددا من أهم التوكيلات الطبية بمصر، نفس هذه المشاعر لمستها في كثير من الناس خلال الفترة الماضية، إذا تجولت في شوارع القاهرة ستلحظ هذا الوجوم والضيق والإحباط الذي يحاصر ملايين المصريين وتشتد وطأته مع انفلات الأسعار وتردي
الاقتصاد.
قال لي صاحب مخبز: احنا لبسنا فى الحيط ولسه بندوس بنزين مش بناخد خطوة لورا عشان نطلع من الحيط، تعبير مشابه لما يسيطر على الناس من شعور بالخوف قالته لي سيدة خمسينية حين سمعت التصريح الرئاسي الأخير حول جاهزية الجيش للنزول والانتشار خلال ست ساعات قالت: الجيش هينزل ضد مين؟ محدش هييجي يحتلنا من بره تاني، اللي بيوقع البلد من جواها، كل واحد مش شايف شغله وبيعك جنا على البلد دي ومحدش بيعترف أنه غلطان، وكل يوم يبشرونا بالخير اللي جاي ومش بييجي!
يشعر المصريون بالخوف بسبب بؤس الواقع وضبابية
المستقبل، لا أحد في مصر يصدق أن البلاد تسير نحو الأفضل سوى السلطة وبعض مؤيديها الذين يتناقص عددهم يوما بعد يوم، مصدر
الخوف الأول لدى المصريين اليوم هو شعورهم أن الفشل الاقتصادي خرج عن نطاق السيطرة، وأن الجوع يدق الأبواب، تنسحق الطبقة الوسطى وتختفي لتتسع دائرة الفقر والمعاناة والسخط، الناس في مصر لا تترقى طبقيا الأن بل تتحدر للأسفل وتنكمش رغما عنها.
رغم صدور قرارات تعويم الجنيه ورفع سعر المحروقات فقد ارتفع سعر الدولار ليقارب سعره في السوق السوداء، مما جعل الناس يتساءلون هل حلت الدولة وبنوكها مكان السوق السوداء ولم يتسبب تحرير سعر الصرف سوى في خفض قيمة مدخرات المصريين وإضعاف قدرتهم الشرائية! لدى الناس رغبة في التحمل والصبر إذا كان ذلك سيعقبه راحة ورخاء وخروج من النفق المظلم لكن هذا الحلم يتبدد يوميا أمام أعينهم.
لا يعتني الناس اليوم بالسياسة قدر اعتنائهم بلقمة العيش، لكنهم صاروا مدركين أن السياسة تؤثر مباشرة في الاقتصاد وفي معاناتهم اليومية، أخطر ما يواجه مصر الآن ليس خطرا بيئيا ولا أمنيا ولا خارجيا، بل هو الخطر الاقتصادي الاجتماعي الذى ينذر بعواقب وخيمة تصر السلطة على تجاهلها وإنكارها الفقر والجوع يولد البلطجة ويدشن فلسفة الاستحلال، الجائعون لن ينتظروا أحدا إذا غضبوا، لا القوة سترهبهم ولا الوعود ستوقفهم، فمعركتهم حينها ستكون من أجل التشبث بالحياة ولو كان ذلك على حساب حياة الآخرين.
بحث الناس عن الأمان فلم يجدوا سوى مزيد من الخوف، حلقوا عاليا في سماء الأحلام فأسقطتهم رياح الإحباط ومرارة الإخفاق، التشاؤم في مصر صار جريمة تعاقب عليها السلطة فمن أين يأتي الناس بالتفاؤل؟ سيتخلى المصريون عن خوفهم حين يرون رؤية واضحة للمستقبل وليس عشوائية وارتجالا.
ستعود مشاعر الأمان حين يشعر الناس أن ثمة تغييرا إيجابيا يحدث في حياتهم مهما بدا صغيرا، الرهان على الإعلام الموجه وأبواقه للتسكين والتبرير رهان فاشل، والرهان على القوة لحسم الأمور دون علاج مسببات الغضب طالما أثبت فشله قبل ذلك، لا بديل عن العودة لقضبان القطار ووضع القاطرة في المسار الصحيح لتخرج مصر من كبوتها، كلما ابتعدنا عن الديموقراطية الحقيقية كلما ابتعدنا عن مسار الإنسانية وركب التقدم، أصلحوا السياسة ينصلح الاقتصاد، لا تعاندوا الزمن لكي لا تدهسكم أقدامه!