هو إعلان ناجح بلا شك، فقد حقق الانتشار وأثار الانتباه وأشعل الجدل على مواقع التواصل الاجتماعى بين مؤيد ومعارض ، وإذا استطاع صناع أى إعلان الوصول لهذه النتائج فقد وصلوا لتحقيق فلسفة الإعلان الدعائية بامتياز ! لكن السؤال الأهم هل نجح الإعلان إنسانيا؟
لم يتخيل المرء فى حياته أن يفكر أحدهم فى جعل المرض وسيلة للدعاية والترويج ، فالمرض له هالة فى النفس البشرية توجب على المرء التعاطف مع أصحابه والحفاظ على مشاعرهم ومعاملتهم بأكثر درجات اللطف الممكنة نظرا للتغيرات النفسية والفسيولوجية الحادة التى تصاحب المرض خاصة أمراض الشيخوخة التى تتميز بحساسية بالغة يكنها كبار السن لكل شىء حولهم
يجعل الإعلان إياه أمراضا كالزهايمر مادة للفكاهة والسخرية بينما يعتبر القسطرة العلاجية نوعا من (الترويش) على حد تعبيره ويتحدث عن الشلل الرعاش وبعض الأمراض الأخرى على سبيل المزاح السخيف الذى لا شك يؤذى مشاعر كل مريض مر بلحظات المرض.
لم أنتبه للإعلان إياه سوى من رسائل وصلتنى تسألنى عن رأيى كمتابع وحين شاهدته أصابنى خليط من مشاعر التقزز والاستنكار والصدمة ، لم أستوعب فى البدايةما رأيته ثم ازددات صدمتى وأنا أرى تعليقات من نوعية (الإعلان جميل – الإعلان مبهج – الإعلان عبقرى – الإعلان بيضحك أوي... الخ).
سيعتبر البعض أن هذا اختلاف أذواق فنية ووجهات نظر ، لكن الحقيقة أن الامر يتخطى فكرة وجهات النظر ويدخل لمساحة احترام الإنسانية وهيبة المرض والضعف الإنسانى والوهن الذى يصاحب الشيخوخة.
كم من واحد فينا شاخ والده وأصابته هذه الامراض وعانى منها عناء شديدا حتى انتهى أجله وظل أبناؤه يذكرون تلك اللحظات المهيبة القاسية التى كان المرض يفسد فيها كل شىء ويجعل الحياة مريرة على المريض وذويه.
مات والدي وأنا في عامي الخامس عشر لكن سبق موته رحلة مرض مضنية تذوقنا فيها كل صنوف العذاب والمعاناة والاكتئاب والشفقة عليه مما عايشه من ألم بلا حدود، لم يكن والدي وكثيرون مثله يرقصون فى غرفة الانعاش ولا يستخدمون القسطرة كوسيلة للترويش بل كانت خطوة علاجية لإبقائهم على قيد الحياة ولم يتمنوا أبدا استخدامها ولا دخول المستشفيات من الأساس.
هل عرف صناع الإعلان أن مرض الزهايمرهو مرض يعذب المسنين بلا هوادة ويعذب كل ذويهم الذين لا يستطيعون فعل شىء سوى انتظار قدر الله وحكمه؟ أين غرف الانعاش والعناية المركزة التى تجلجل فيها الضحكات والقفشات؟ هل عرف هؤلاء ما يعايشه أهل المريض من حزن وخوف وهلع مع كل مرة يدخل فيها المريض هذه الغرفة؟ وهم يقفون خارجها لا يعرفون هل سيعيش أم ستكون أخر لحظاته فى الحياة داخل هذه الغرفة؟
كنتُ أزور بعض المسنين دوريا فى أحد الدور الخاصة بهم فى منطقة مصر الجديدة بالقاهرة، أواسيهم وألاطفهم مع مجموعة من الأصدقاء، أتذكر قول عم حسن لى فى كل مرة نزورهم وهو يقول ( احنا عايشين بالأمل إن فى بكرة عشان كدا مش عايزين حد منكم يفكرنا بمرضنا ولا تعبنا ولا إننا هنموت قريب يا عالم ممكن نعيش أكتر منكم؟!!
أما عم جلال فهو رجل ثمانينى أصر على أن يزرع أسنانا جديدة بدلا من أسنانه التى فقدها مع تقدم العمر وقال لى ( عايز أعيش لحد أخر يوم فى حياتى مبسوط ومش حاسس انى موتى قرب ولا حد يفكرنى ان ايامى معدودة ) ، لا أدرى ماذا سأقول لعم جلال إذا شاهد هذا الإعلان ؟ هل سيعتبره فكاهة طريفة ؟ هل سيبكى من شدة ضيقه ؟ هل سيصيبه الاكتئاب الحاد ؟
هذا ليس جلدا لصناع الاعلان لكنها صرخة لضمائر تشوهت فيها معانى الانسانية واختلطت مع الرغبة فى التميز ولفت الانتباه الدعائى على حساب بديهيات إنسانية لم نكن نتخيل أن نتخطاها يوما ما.
الابداع مسؤولية تقع على عاتق كل إنسان يتقدم للبشرية بمنتج فني، احترام القيم الانسانية لا يمثل حجرا على رأيك ولا فكرك ولا يضع حدود وقيود على ابداعك، قد تكون ناجحا إعلاميا ودعائيا ومهنيا ولكنك رسبت فى اختبار الإنسانية، فلا تكن هكذا!!