هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان الرجل موظفا صغيرا فى شركته لا يأبه له أحد ولا يراه وسط ألاف العاملين بالشركة فهو واحد من هؤلاء الناس الذين تسير حياتهم باعتيادية ورتابة ولا تؤثر مجريات حياته فى حياة من حوله ، ومرت السنوات و الأيام وإذا بالأقدار ترفع الرجل وترقى الموظف الصغير ليصل الى رأس هذه الشركة ويصبح رئيس مجلس إدارتها ، وهنا بدأ التغير الجذرى فى حياته.
يفتح له باب السيارة أحدهم ويسير بين يديه شخصان أحدهما عن يمينه والأخر عن يساره بينما يقف صف لا يقل عن أربعة أشخاص على باب الشركة فى شرف استقباله ويرفعون أيديهم بالتحية والسلام مع رأس محنية تنخفض حتى تكاد تلامس الأرض.
يرفع الرجل عينيه ويرى كل هؤلاء حوله فيستغرب فى البداية من أفعالهم ويراها مبالغة ونفاقا ، وتمر الأيام ليشعر بمتعة حقيقية كلما زاد عدد مستقبليه ومحييه ، لا يناقشه من تحته من الموظفين فى شىء بل يقولون دوما ( انت الصح علطول يا فندم – بعد كلام سيادتك مفيش كلام – حضرتك بس اللى عارف مصلحة الشركة وقراراتك كلها بتصب فى مصلحة الشركة – الشركة كانت منهارة قبل سيادتك وبعد توليك المسؤولية بقت أهم شركة فى البلد – سيادتك نعمة من ربنا أرسلها للشركة عشان تقوم على رجليها – ما ينفعش حد يمسك الشركة غير سيادتك دى كأنها مكتوبة بإسم حضرتك – حضرتك وسيادتك وفخامتك و .... الخ )
يتحول الموظف الصغير الى بالونة منتفخة من كثرة المديح ، ويتبارى المنافقون من حوله فى الاطراء والمديح ، ترتبط سعادته وراحته النفسية بقدر التزلف والنفاق والمديح الذى يتلقاه ممن يتعامل معهم يوميا ، يشعر بحزن ووحشة إذا مر يوم دون إطراء وإشادة بعبقريته ، تتعثر الشركة ويتراجع مركزها المالى لكن من حوله يقنعونه أن السبب فى ذلك هو كساد السوق والموأمرات التى يدبرها المنافسون الحاقدون .
يرتاح الرجل لتلك التفسيرات وينشغل أكثر بالمظاهر حوله ، يصر على أن يتحول مكتبه الى تحفة فنية فريدة ، ويفعلون له ذلك ، لكنه لا يقتنع بذلك ولا يكتفى ويطلب منهم بناء مقر جديد للشركة يكون مبهرا وصادما لكل من يراه من فرط روعته واتساعه وفخامته ، يقول له بعضهم على استحياء لأول مرة ( نحن لا نحتاج لكل هذه المساحة ويمكننا تطوير وتحديث مبنى الشركة القديم بقليل من الجهد والمال ) يقول لهم كلا لا يمكن أن أكون رئيس لشركة مقرها الرئيسى متهالك وقديم ومثله مثل المبانى العادية التى تمتلكها بقية الشركات ، يؤسس الرجل صرحا فاخرا يتوه فيه كل من يدخله من شدة اتساعه وكثرة دهاليزه التى تحتاج لخريطة تفصيلية حتى يمكن التعرف عليها.
تبقى اللمسات الأخيرة قبل الافتتاح ، يشعر الرجل بحالة من اليوفوريا المتصاعدة ، يدعو كل أصدقاءه ليوم الافتتاح ، يشترى بدلة من خارج البلاد بمبلغ طائل ، يجهز لليوم وكأنه يوم عرسه ، وقبل اليوم المنشود بيومين يأتيه الخبر بأن مُلاك الشركة قد أنهوا عمله بها وعليه أن يجمع حاجاته وأغراضه ويغادر الشركة بلا رجعة.
هكذا دون مقدمات يطلبون منه الخروج من المشهد فيسألهم بتحسر : ومن الذى سيفتتح المقر الجديد للشركة ؟ أنا الذى بنيته وشيدته حتى صار حديث الناس ومحل اعجابهم ؟ فيقولون له ببرود : سيفتتحه رئيس مجلس الادارة الجديد الذى أوليناه المسؤولية من الأن !
ينهار الرجل وقبل أن يغادر محل عمله يتسلل الخبر للعاملين بالشركة ، تتعالى الضحكات والهمز واللمز ، يجمع الرجل أغراضه من مكتبه الوثير وينادى على أحدهم ليساعده فى ذلك فلا يعيره انتباها ، يتصل بأخر كان كثيرا ما يمدحه ويتزلف اليه ، لا يرد على مكالمته ، يشعر بحرج شديد ، يخرج من مكتبه ويلقى نظرة أخيرة على المبنى القديم للشركة ويتداعى لذهنه صورة المبنى الجديد الذى شيده وبناه ولن يدخله !
لا تحمله قدماه ، ينزل للبهو الذى طالما استقبلوه فيه بالزفة والنفاق والانحناءات فلا ينتبه اليه أحد ولا يقوم أفراد أمن الشركة لتحيته ولا ينتظره أحد عند باب الشركة للوداع ، ويمضى الى سيارته فلا يجد أقدام سبقته إليها لتفتح له الباب كما تعوًد ، يدلف لسيارته ويختفى بداخلها وينطلق للأمام وخلفه ألاف الصور والمشاعر التى كانت تغمره وهو يشعر بالوهج النفسى والنشوة والسعادة منذ صار رئيسا لمجلس الادارة .
كل ذلك انتهى ومضى، يعود لبيته ويجلس حسيرا وحيدا يفتقد الرسائل التى كانت تصله يوميا على هاتفه وهى تحمل امنيات ودعوات ومشاعر كرتونية كانت تأسره وتبهجه من كثرتها ، لا أحد يتذكره الأن ، حتى زملاءه الذين رافقوه فى العمل منذ بداية التحاقه بالشركة يتجنبونه تماما ولا يحاولون وصاله ولا مواساته ، وكيف يفعلون ذلك وهو الذى نًكل بهم منذ تولى الادارة لأنهم كانوا يذكرونه بالأيام التى كان فيها موظفا صغيرا يرافقهم فى نفس المكتب !
هذه قصة حقيقية وليست من وقع الخيال ، قصة تتكرر كل يوم على جميع المستويات ، قصة تشرح كيف يصنع الناس الفرعون وكيف يغيرون الشخص الطيب الى شخص أخر مخيف بما يفعلونه من نفاق وتزلف وادعاء ومبالغة وتضخيم ، كل أحداث التاريخ تؤكد أن وراء كل فرعون ثلة من الناس قرروا الركوع الاختيارى وعشقوا السجود الارادى من تلقاء أنفسهم وارتضوا التبعية والذلة ليصنعوه فرعونا يتجبر عليهم ويؤذيهم ، تبقى الحقيقة الخالدة التى تجسدها العبارة ( لا تلوموا الفرعون على كونه فرعونا بل لوموا من جعلوه كذلك )
هكذا يصنع الناس الألهة بأيديهم ، فهل يستفيق الناس ويعودون لرشدهم ؟