في فقه المحن، يوجد باب اسمه "عموم البلوى"، وتفسيره فيما تعيشه
مصر الآن، فقد سخر المصريون من الأخ العقيد القذافي، وامتدت سخريتهم للشعب الليبي الشقيق نفسه، إذ كان بعض المصريين يعمم في أحكامه، ويعتقد أن كل ليبي هو في الأصل يحمل قذافيا صغيرا بداخله، غير مبالين بالتحذير المعروف، لا تسخر من أخيك، فيعافيه الله ويبتليك، حتى صار عندنا في مصر قذافي في مرحلته الأخيرة، يوشك أن يهتف: دار دار، زنقة زنقة، وإن كان القذافي المصري هتف بتحذيرات أشبه إلى ذلك، وصرنا معه في المرحلة التي استقل فيها الزعيم الليبي "التوك توك" وغادر، وقد يختلف عنه السيسي لأنه سيستقل دراجة لا "توك توك"!
كلما تكلم السيسي ذكرنا بالفقيد، ودفع مواقع التواصل الاجتماعي للانفجار من السخرية، فعلى المسرح الفكاهي من شرم الشيخ، أعلن أن ثلاجته ظلت عشر سنوات لا يوجد فيها سوى الماء، دون أن يسمع له أحد صوت بالشكوى، رغم أنه من الأثرياء، دون أن يخبرنا عن التطور الجديد في حياته، الذي كان سببا في أن ثلاجته لم تعد قاصرة على تخزين المياه، فهل تغير نشاطها مع أول زيادة في راتبه، أم مع أول علاوة، والعلاوات تقر سنويا، وليس كل عشر سنوات؟!
عن نفسي فقد عاصرت الثلاجة التي تستخدم في تبريد المياه فقط؛ إذ كنت طفلا، عندما شاهدت أول ثلاجة، في منزل عمنا الشيخ "عبد الرحيم عزوز"، وبدا رحمة الله عليه اشتراها من باب الوجاهة الاجتماعية، فلم تكن له حاجة بها، فثقافة الحياة لم تكن قد توصلت في مجتمعي البسيط، للتخزين، فاللحوم تأتي من الجزار للطهي، وإذا كان الشراء أكثر من الحاجة في عيد الأضحى، فقد عرفت المرأة في الريف "التقديد"، يقال إنه طريقة فرعونية، الذي يحافظ على اللحوم طازجة لعدة أيام، والطيور في المنزل، فلا حاجة للذبح والتخزين في الثلاجة، و"الطبيخ البايت"، هو طعام درجة ثانية، لا يقدم لضيف، ولا يأكله أهل المنزل إلا من باب الضرورة ولضيق ذات اليد، ويستخدم وصفا في التقليل من الشأن والحط من القدر، كأن تقول إن كلام الذين تحدثوا في مؤتمر السيسي للشباب هو كـ "الطبيخ البايت". والثلاجة لم تكن المصدر الوحيد للماء البارد، فهناك "القلل القناوي"، وهناك "الزير"، وكلاهما مصنوع من الفخار!
في شهر رمضان، الذي كان يأتي في عز الصيف، ولأن الناس كانت تقدم على شراء الثلج، فإن ثلاجة الشيخ "عبد الرحيم عزوز"، كانت تتحول إلى سبيل، ومخزن لزجاجات الجيران وأوانيهم، وليستفيد منها السائل والمحروم!
بيد أن السيسي لم يكن يعيش في الريف المصري، حيث لا يجوز أكل "الطبيخ البايت"، كما أنه لم يكن يربي "فوق سطوح" منزله، دجاجا وبطا، وفي الدور الأرضي أرانب وديوك رومي، وعندما يقول إن ثلاجته ظلت عشر سنوات لا يوجد فيها إلا الماء، فإننا نكون أمام خيارين: الأول، أنه رجل بر مائي يعيش على الماء ويتغذى على الضوء، أو أنه يكذب!
الخيار الثاني هو الأقرب للصدق، فما الذي يجعله يكذب ويتحري الكذب، ويقسم بالله العظيم جهد أيمانه، لتمرير هذه الأكذوبة، التي لم تنطل على الجنين في بطن أمه وانتقلت به إلى العالمية، لدرجة أن هاشتاج ثلاجة السيسي حصل على المرتبة الثالثة عالميا، وأصبح مثارا للسخرية والتندر، من شخص وصل به الحال إلى اعتقاده أنه يخاطب مجموعة من المغفلين، وكأنه لم يعد على ظهر البسيطة إلا السذج، الذين يصدقونه؟!
مأساة السيسي أنه مقلد تقليد أعمى، فقد صدق أنه يمكن بالأسلوب البسيط أن يكون قريبا من وجدان الناس، فقرر "التبسط"، لكن تكمن مشكلته في أنه يفتقد للمهارات التي تجعله يقول كلاما مقبولا، في بلد لم يجد شعبه شيئا قدر إجادته لفنون الكلام، وهو الذي أنتج نصائح ذهبية مثل "اقعد معوج وتكلم عدل"، و"كذب مساوي أفضل من صدق منعكش"، و"إذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا"، إن شئت فقل إنه جاء يبيع الماء في حارة السقايين!
فكرة التبسيط هذه مستوحاة من زمن عبد الناصر، واختلاف قيم المرحلتين يجعل من التقليد، شبيها بالمقولة الصعيدية: "جاء يتمدن – من المدنية – فجاب لأهله مصيبة"، فعبد الناصر عندما قدم نفسه للناس على أنه الرئيس البسيط، فلأنه جاء بعد المرحلة الملكية حيث الحديث عن الأوضاع الأسطورية التي كان يعيش فيها الملك وحاشيته، أما بساطة السيسي الآن فليست ميزة، فليس هو ابن حيدر باشا، كما أنه ليس من سلالة عبود باشا، وكل الرؤساء الذين حكموا مصر بعد حركة ضباط الجيش في 1952، هم أبناء أسر بسيطة بما في ذلك الرئيس محمد مرسي، كما أننا لا نعلم أنه لورد في مجلس الأعيان البريطاني، فتكون بساطته تنازلا، ويغدو تواضعه ميزة، فهو معروف عنه أنه "تمسكن" للإخوان حتى تمكن، وبالغ في التزلف للرئيس محمد مرسي حتى أدخل عليه الغش والتدليس، والصورة المرسومة له في أذهان الناس هي صورة الرجل الضعيف، وما يبددها أن يظهر بخلافها، دعك من القتل والاعتقال والتنكيل بالخصوم السياسيين، فليس هذا دليل قوة أبدا!
عبد الناصر، لم يكن فقط واحدا من أبناء الطبقة الفقيرة فعرف كيف يخاطب عموم الشعب، لكنه يمتلك قدرات خاصة، جعلته قادرا على التعبير، وعلى الوصول إلى عقول الناس وتحريك عواطفهم، إنما نحن أمام عبد الحليم حافظ في طبعته الأولى، وقد كان عبد الناصر يخاطب البسطاء فيلهب حماسهم، في حين أن السيسي يفجر براكين السخرية والضحك، لافتقاده للقدرة على التعبير وللوصول للناس!
إذا تعاملنا بجدية مع حديث الثلاجة، فنجد أننا أمام حالة من غياب النظرة الموسوعية، تماما مثل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عندما أنتج القصيدة التي غناها عبد الحليم حافظ في مدح مصر: "وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها..."، فاته أن الترعة مصدر من مصادر الإصابة بالبلهارسيا، وكذلك الأمر بالنسبة للسيسي الذي قال إن ثلاجته ظلت عشر سنوات لا يوجد بها إلا الماء، لنكون أمام حالة من إهدار الطاقة الكهربائية، و"القلة القناوي" يمكن أن تؤدي الغرض في التبريد دون الحاجة إلى استهلاك الكهرباء، كما أنه لم يذكر أنه كان يُخرج الثلاجة من الخدمة في فصل الشتاء مثلا، فما كل هذا الإسراف؟!
التعامل بجدية مع كلام السيسي، يجعلنا نقف أمام شخص مقطوع من شجرة، فلم يحدث مثلا أن زاره قريب من "البلد"، حاملا المحمر والمشمر، فيحتاج الأمر إلى وضعه في الثلاجة حتى لا يفسد؟ وإذا كانت العلاقة مع أبناء العمومة ليست على ما يرام، فأين الأصهار وأخوال الأولاد، ألم يفكر أحدهم في زيارتهم ولو ببطة بلدي لا مكان لها في الشقة، فذبحت ووضعت في الثلاجة!
أعلم أنه من العبث أن نتعامل مع التهريج بجدية، لكن معذرة فالقافية حكمت!
ما علينا، فبعيدا عن الضحالة في التعبير، فإن حديث الثلاجة هو رسالة من السيسي للشعب بأن يتحمل سياسات التجويع، وأن يتقبل القادم الأسود، بقبول حسن، وإن اضطر أن يعيش على الماء لعشر سنوات قادمة، وقد يكون مطلوبا منه بعد ذلك أن يتبرع بالثلاجات من أجل مصر، فليس معقولا أن يستهلك الطاقة الكهربائية من أجل شربة ماء مثلجة!
إنه السيسي يعدكم الفقر!