سنة على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية

مرت سنة على نشوب الحرب بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا (24 شباط/ فبراير 2022 - 24 شباط/ فبراير 2023)، ولا يُعرف على وجه اليقين متى تجد هذه الأزمة الدولية المعقدة طريقها إلى الحل. فهي وإن بدت نزاعا بين دولتين جارتين، كانتا إلى وقت قريب ضمن منظومة واحدة، فقد عبّرت في الواقع عن حرب بالوكالة بين كتلتين متناقضتين من حيث المرجعية الأيديولوجية والسياسية: روسيا الاتحادية، بحسبها عمق ما تبقى من الاتحاد السوفييتي سابقا، وأوكرانيا، التواقة إلى دخول المنظومة الليبرالية الغربية، والمدعومة من قبل حلفها العسكري (الناتو) ومجمل الدول الأعضاء فيه، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يكن تاريخ بداية النزاع الروسي الأوكراني عام 2014 بضمّ روسيا لجزيرة القرم، ولا سنة 2022 حين حشدت الرئاسة الروسية صبيحة يوم 24 شباط/ فبراير 2022 جيشها بشكل واسع في شمال أوكرانيا وشرقها وجنوبها، وإعلان "بوتين" عن إطلاق ما سماها "عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا"، بل تعتبر الحرب الدائرة منذ أكثر من سنة في أوكرانيا إحدى نتائج تفكك ما كان يسمى "الاتحاد السوفييتي"، وانهيار منظومته الأيديولوجية والسياسية، وتراجع امتدادها داخل وسط وشرق أوروبا.

نُشدد على اندراج الحرب الروسية الأوكرانية ضمن هذا التجاذب الدولي بين الهيمنة الغربية والطموح إلى إبقاء توازن القوى ذات المرجعيات الأيديولوجية والقيمية والسياسية مستمرا وموجها للعالم. ومن هذه الزاوية بالذات يمكن فهم الحرب الدائرة في أوكرانيا وتحليل تطوراتها وآثارها الضارة على الاقتصاد والتجارة والأمن والاستقرار في العالم

فانهيار المعسكر الشرقي فتح الباب واسعا أمام استقلال الكثير من الدول التي كانت ضمن مكوناته، كما أضعف المنظومة الاشتراكية التي عمّرت أكثر من سبعين سنة (1917-1989) وقلص نفوذها الدولي، وأصبح الحديث قويا عن انتهاء نظام القطبين، واندماج العالم برمته في المنظومة الليبرالية، وهو ما عبرت ودافعت عنه العديد من الأدبيات، أبرزها أطروحة "نهاية التاريخ" لـ"فرنسيس فوكوياما". بيد أن تطور الأحداث وتعاقب الوقائع أبانت بوضوح عدم صدقية اندماج العالم في المنظومة الليبرالية من جهة، وأكدت، من جهة ثانية، الحاجة الماسة لاستمرار العالم واستقرار مصالح دوله على قاعدة التوازن بين أقطابه، أي صعوبة، إن لم نقل استحالة، تمركز العالم حول منظومة بعينها، واستفراد صنع قراراته من قبل دولها وقواها الكبرى.

لذلك، نُشدد على اندراج الحرب الروسية الأوكرانية ضمن هذا التجاذب الدولي بين الهيمنة الغربية والطموح إلى إبقاء توازن القوى ذات المرجعيات الأيديولوجية والقيمية والسياسية مستمرا وموجها للعالم. ومن هذه الزاوية بالذات يمكن فهم الحرب الدائرة في أوكرانيا وتحليل تطوراتها وآثارها الضارة على الاقتصاد والتجارة والأمن والاستقرار في العالم. فهكذا، قُدرت خسائر الحرب بعد مرور سنة على اندلاعها، بـ240 ألف قتيل، من المدنيين والعسكريين من كلا الطرفين، وما يناظرها من الخسائر المادية، حين وصلت في الجانب الروسي نسبة 70 في المائة من مخزون روسيا من الصواريخ الصالحة للأهداف البرية، و60 في المائة من دباباتها القتالية، و20 في المائة من مدفعيتها. أما نصيب أوكرانيا فتجاوز 400 دبابة وأكثر من 1500 مركبة قتالية، وكلها أرقام نشرها موقع "أوريكس" المتخصص بشؤون الدفاع بداية العام 2023.

يُذكر أن الأوكرانيين وافقوا عبر استفتاء جرى يوم 24 آب/ أغسطس 1991 على خيار الاستقلال عن موسكو، وبناء دولتهم الخاصة، وانتخاب رئيسهم "ليونيد كرافتشوك" لقيادة البلاد، غير أنه خسر منصبه الرئاسي بعد ثلاث سنوات من انتخابه لصالح غريمه السياسي، الزعيم الشيوعي "ليونيد كونشما"، الذي استمر حاكما لأوكرانيا حتى العام 2004، ليحل محله في انتخابات رئاسية ثالثة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، المرشح المؤيد لروسيا "فيكتور يانوكوفيتش". لم تحظ هذه الانتخابات بالتأييد لوسمها بالتزوير، فأعيدت تحت ضغط المظاهرات واندلاع ما سمي "الثورة البرتقالية"، في شباط/ فبراير 2005، ليفوز المقرب من الغرب "فيكتور يوتشينكو"، الذي لم يتردد صراحة في التعبير عن إرادته إخراج كييف من عباءة الكرملين، والانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

نحن إذن أمام تجاذب بين إرادتين داخل أوكرانيا: إرادة الاستقلال عن روسيا مع التطلع إلى دخول الغرب ومنظومته، وإرادة البقاء ضمن النفوذ الروسي وهيمنته الأيديولوجية والسياسية. لذلك، يصعب فهم الحرب الروسية الأوكرانية بمعزل عن هذا التجاذب، وبدون أخذ بعين الاعتبار تحليل سيرورة النزاع وإدراك نتائجه على طرفيه والعالم من حولهما، وهو ما يعني بالضرورة أن الحل أو الحلول الممكنة لهذه الأزمة سياسية بالدرجة الأولى، وتتطلب تنازلات وتوافقات مشتركة بين الطرفين

نحن إذن أمام تجاذب بين إرادتين داخل أوكرانيا: إرادة الاستقلال عن روسيا مع التطلع إلى دخول الغرب ومنظومته، وإرادة البقاء ضمن النفوذ الروسي وهيمنته الأيديولوجية والسياسية. لذلك، يصعب فهم الحرب الروسية الأوكرانية بمعزل عن هذا التجاذب، وبدون أخذ بعين الاعتبار تحليل سيرورة النزاع وإدراك نتائجه على طرفيه والعالم من حولهما، وهو ما يعني بالضرورة أن الحل أو الحلول الممكنة لهذه الأزمة سياسية بالدرجة الأولى، وتتطلب تنازلات وتوافقات مشتركة بين الطرفين، قاعدتها الذهبية "سلام الشجعان"، وليس حلا أو حلولا متباينة الأوزان.

من حق أوكرانيا اختيار الطريق الذي يتوافق مع تطلعات شعبها، بما فيه طريق الاندماج في المنظومة الغربية، لكن عليها ألا تنسى أنها على عتبة الحزام الأمني لروسيا، بكل ما يتطلب هذا الجوار الصعب والخطير من تقدير وفهم وتعاون. ومن حق روسيا أن تدافع عن أمنها القومي، كقوة مختلفة في منظومتها عن الغرب، وكبلد يتوق لأن يكون العالم متوازنا وليس متمركزا حول الغرب دون سواه.. إنها معادلة بالغة التعقيد والتشابك، وهو ما قد يدعو للقلق من استمرار الحرب طويلا، وقد تنعطف نحو آفاق لا يقدر العالم برمته على الخروج منها.

تُعطينا الحرب الروسية الأوكرانية، مرة أخرى، الدليل على أن العالم خُلق ليكون متوازنا لا أن يظل متمركزا ومتكورا على ذاته. فتوازن القوى يعني الاعتراف بتباين المصالح وتنوعها وتغايرها، والمغايرة تستدعي الاعتراف المتبادل، والحوار، والتوافق من أجل بناء المشترك الإنساني، ودون هذا سيُدمر العالم نفسه بنفسه.