قضايا وآراء

في علاقة الطبقة الوسطى بالاستقرار السياسي

"تزايد تآكل منسوب قوة الطبقة الوسطى في العقود الأخيرة من القرن العشرين"- جيتي
لم يتوقف التفكير في التشكيلات الاجتماعية، من حيث طبيعتها وتراتبيتها، منذ عقود، بل ازدادت النقاشات حولها في المجال السياسي والاجتماعي العربي، وتحديدا حول واقع "الطبقة الوسطى"، وسُبل تعزيز مكانتها في الدولة والمجتمع..

ومن الواضح أن اعتماد منطق اليقين الجازم في الحكم على استمرار الطبقة الوسطى فاعلة ومؤثرة في التوازنات المجتمعية، أو الاعتقاد خلافا لذلك بتآكلها وضمورها، من الأمور غير الواضحة وغير المؤكدة بما فيه الكفاية من الناحيتين المعرفية والسياسية. وفي الظن يُعزى ذلك، بدرجة أساسية، إلى شُح الدراسات الإمبريقية والمسوحات الميدانية في مجمل البلاد العربية. فكثيرا ما أعلنت المندوبية السامية للتخطيط في المغرب على سبيل المثال؛ عن نتائج بعض دراساتها عن الطبقة الوسطى، مؤكدة على أن نسبة المنتسبين إليها وصلت 54 في المئة من إجمالي سكان البلاد، أثيرت زوبعة من النقاشات والتعليقات المشككة في صحة وصدقية هذا الرقم، والأمر نفسه عاشته تونس تقريبا في أوقات متقاربة.

الطبقة الوسطى، فتحتل موقعا يؤهلها لأن تكون قاطرة للتوازن والاستقرار المطلوبين لتحقيق التماسك والانسجام بين مكونات المجتمع من جهة، وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى

يُعتبر مفهوم "الطبقة الوسطى"، كغيره من المفاهيم وهي كثيرة، من المفردات الوافدة على دائرة التداول العرب، فقد تم تأصيله في سياق النقاشات حول تشكيلات المجتمع الأوروبي تحديدا، وذلك بالقول: "إن الطبقة الوسطى هي تلك الفئات الاجتماعية التي تقع من الناحية التراتبية في منزلة بين المنزلتين"، أي بين الطبقة العليا والأخرى الدنيا.

وبناء عليه، يتوزع المجتمع على ثلاث طبقات، تستحوذ الأولى (العليا) على أهم مصادر الثروة وآليات إعادة إنتاجها، في حين لا تمتلك الثانية (السفلى) سوى قوة عملها، أما الثالثة، أي الطبقة الوسطى، فتحتل موقعا يؤهلها لأن تكون قاطرة للتوازن والاستقرار المطلوبين لتحقيق التماسك والانسجام بين مكونات المجتمع من جهة، وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى. أما مصادر قوتها في حفظ السلم والاستقرار، فتعود إلى درجة تعلم أبنائها، ومستواهم المعرفي والتربوي، وخبرتهم في ربط جسور التفاهم بالحوار وقبول الاختلاف وحسن تدبير الصراع.

والحال، أنه منذ القدم تميزت الطبقة الوسطى بهذه الصفات، وحرصت على أن تكون صمام أمان في مواجهة التوترات التي تخترق بُنى المجتمعات. ألم يُشدد أرسطو على الدور المركزي للطبقة الوسطى في حفظ السلم والأمن والاستقرار والتوازن، وهو الذي كرس نصيبا من نشاطه الفكري لاستقراء تجارب المجتمعات في الحكم، وخبراتها الدستورية والسياسية؟

ثمة حقبتان في فهم مسار تطور الطبقة الوسطى العربية ومآلها، يمكن ربط المرحلة الأولى بزمن الاستعمار وتداعيات تأثيره على الدول والمجتمعات، في حين تخص الحقبة الثانية مرحلة ما بعد خروج الاستعمار وسيرورة إعادة بناء الدول الوطنية. والحقيقة أن السياقين معا فعلا فيما آلت إليه الطبقة الوسطى، ففي كل المناطق التي شملتها الحركة الاستعمارية تم إضعاف مقومات الطبقة الوسطى وتدمير إمكانيات نموها واستقواء عودها، إما من خلال تفكيك أنسجة المجتمع وإزاحة كل الوسائط التي تشد أزر هيئاته ومنظماته الأهلية (الزوايا القبائل والعشائر)، أو إغلاق كل أبواب الترقي الاجتماعي وسُبُله (التعليم والتربية وبناء المعرفة أساسا). وقد ظل القصد من ذلك الوصول إلى درجة عُليا من التحكم في مفاتيح الدول المحتلة والاستقواء عليها، وقد نجح غُلاة الاستعمار في تحقيق هذه المرامي، وإن بدرجات مختلفة، كما حصل في بلاد المغرب على سبيل المثال.

أما أثناء الحقبة الثانية، فقد كان حريا بالنخب التي قادت البلاد بعد رحيل الاستعمار أن تعمل على إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى، عبر تنمية قدراتها، وتطوير إمكانيات ولوجها فضاء الإنتاج المادي والمعرفي، وتوفير شروط إدماجها في الرهانات السياسية الجديدة، وهو ما تعذر حصوله مع الأسف في عموم الأقطار العربية. بل إن مسلسلا من الإضعاف طال هذه الطبقة، فأنهى ما تبقى منها من عناصر الصمود والممانعة، أي ألحق مجمل أبنائها بالطبقة الدنيا، نتيجة التقهقر الذي أُرغمت عليه منذ عقود.

يصعب في الحقيقة فصل قضية الطبقة الوسطى عن إشكالية الثروة والسلطة في البلاد العربية، فهي وجه من وجوهها المتعددة، ما يعني أن الطريق إلى إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى مرتبط بشكل عميق بالتقدم المطلوب في موضوع إعادة توزيع الثروة والسلطة

والأمثلة لا تحتاج إلى دليل في أوطاننا العربية، فإن فئة من قبيل الأساتذة الجامعيين، أو غيرهم من الشرائح التي تشترك معهم في الخصائص السسيولوجية، يجدون أنفسهم في عموم الأقطار العربية في أوضاع لا تسمح لهم بالتعبير عن خطابات الطبقة الوسطى وتطلعاتها، لا سيما من زاوية إشاعة فكر الحداثة والتنوير، والعقلانية والحوار، فجلهم اضطروا إلى العيش في وحل القوت اليومي، فسُدت آفاق التفكير والاجتهاد أمامهم، فتحولوا بالنتيجة إلى شبه مدرسين، وقلة منهم ركنوا إلى طريق التزلف للسلطة، طمعا في إكرامياتها، وهو ما أفضى بالضرورة إلى تراجع منسوب عطاء الطبقة الوسطى في مصادر حفظ السلم والاستقرار والأمن والتوازن.

يصعب في الحقيقة فصل قضية الطبقة الوسطى عن إشكالية الثروة والسلطة في البلاد العربية، فهي وجه من وجوهها المتعددة، ما يعني أن الطريق إلى إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى مرتبط بشكل عميق بالتقدم المطلوب في موضوع إعادة توزيع الثروة والسلطة. ودون تحقيق هذا الهدف يظل الحديث عن الطبقة الوسطى بدون معنى ولا جدوى، علما أن النظم السياسية الحاكمة نفسها تحتاج إليها لضمان استقرار الأوضاع في بلدانها، فهي، كما تمت الإشارة، صمام أمان الدولة والمجتمع معا.

ومن اللافت للانتباه تزايد تآكل منسوب قوة الطبقة الوسطى في العقود الأخيرة من القرن العشرين، مقارنة مع النصف الأول من القرن نفسه، حيث كان لهذه الطبقة دور بارز في تنشيط الحياة السياسية والدستورية والاقتصادية.