وجه الرئيس الفرنسي "إيمانويل
ماكرون" يوم 30 تموز/ يوليو 2024؛ رسالة
الى العاهل
المغربي أوضح من خلالها موقف بلاده من نزاع
الصحراء وملف الوحدة
الترابية المغربية. والواقع أنه لأول مرة تُعلن
فرنسا عن موقفها الإيجابي الرسمي
من نزاع ترابي يُقارب عُمُره نصف قرن (1975- 2024)، بعدما ظلت مُتأرجحة بين الغموض
والتردد وعُسر الإقدام. فالرسالة، التي جاءت مقتضبة بطبيعتها، حملت دلالات وأبعاد
عميقة، ستفتح، دون شك، صفحة نوعية جديدة في
العلاقات الثنائية المغربية الفرنسية،
وسيكون لها الأثر الكبير على الوضع الجيواستراتيجي للمنطقة، وستشجع دولا أخرى
للالتحاق بقائمة الدول المعترفة بعدالة قضية الصحراء المغربية.
تكمن قيمة الموقف الفرنسي الجديد في كونه نقل السياسة الخارجية الفرنسية
بخصوص هذا النزاع من مجرد داعم لمقترح الحل المغربي، سواء من خلال عضوية فرنسا
الدائمة في مجلس الأمن أو عبر ترافعها في المناسبات الدولية ذات العلاقة، إلى حاضن
بشكل واضح ونهائي لحل النزاع في لإطار السيادة المغربية. لذلك، شددت رسالة الرئيس
"ماكرون" على أنه "بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية
يُعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية، وأن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم
به المغرب في 2007 واضح وثابت"، لتُضيف بأن هذا المخطط "يُشكل من الآن
فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي عادل، ومستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا
لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
تكمن قيمة الموقف الفرنسي الجديد في كونه نقل السياسة الخارجية الفرنسية بخصوص هذا النزاع من مجرد داعم لمقترح الحل المغربي، سواء من خلال عضوية فرنسا الدائمة في مجلس الأمن أو عبر ترافعها في المناسبات الدولية ذات العلاقة، إلى حاضن بشكل واضح ونهائي لحل النزاع في لإطار السيادة المغربية
والواقع أن الرسالة لم تتوقف عن هذا المستوى، الواضح والهام، بل تجاوزته
إلى ما هو نوعي وجوهري، بتشديدها على أن "حاضر ومستقبل الصحراء يندرجا في
إطار السيادة المغربية، وأن فرنسا تعتزم عمليا التحرك في انسجام مع هذا الموقف على
المستويين الوطني والدولي.."، والأكثر من هذا اعتبر "ماكرون" أن "فرنسا
تُدرك أن قضية الصحراء مسألة أمن قومي بالنسبة للمغرب، أي أنها مسألة حاسمة ومصيرية
بالنسبة للمغرب".
يُسجل لفرنسا انتقال دبلوماسيتها، لأول مرة، من حالة الغموض والتردد إلى قدر
كبير من الوضوح، وبذلك تكون قد أعلنت عن طي صفحة أكثر من ثلاث سنوات من الجفاء والبرودة
في العلاقات الثنائية المغربية الفرنسية، وفتحت صفحة جديدة تتماشى مع القراءة الواقعية
للملف الترابي المغربي، والتقدير العقلاني والناجع للتطور الجيوسياسي للمنطقة
الإقليمية واتجاه الأحداث في العالم.
فمن غير الجائز موضوعيا عدم الانتباه إلى الدينامية المتصاعدة التي شهدها
الملف الترابي المغربي في السنين الأخيرة، حيث توسعت دائرة الانضمام إلى المقترح
المغربي الخاص بالحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية، الذي كرسه عدد القنصليات
الدولي التي فُتحت في مدينتي العيون والداخلة المغربيتين، والاعتراف الرسمي
للولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء سنة 2000، والتغير الجوهري الحاصل في
الموقف الإسباني والألماني، وغيرهما من البلدان في القارات الخمس.
فمما ميّز الدينامية المغربية الجديدة؛ قدرتها على الإقناع بشرعية وعدالة
قضية الصحراء، وتقديمها حلا متوازنا، ومستداما، وواقعيا قابلا للتطبيق. ثم إن
المغرب، موازاة لكل هذا، عبّر عن روح عالية من التعاون والتكامل من أجل خلق شراكات
ناجحة وناجعة، في علاقته بعمقه الأفريقي وبُعده الأوروبي وهويته العربية
والإسلامية، لطالما أعطى مثالا واضحا عن كفاءته للتكيف مع المتغيرات الإقليمية
والدولية، وإعادة النظر في سياساته ومواقفه، من خلال الإصلاحات المتراكمة التي
أقدم عليها بشكل منتظم منذ بداية العشرية الأخيرة من العشريين، وبشكل أسرع مع
مستهل الألفية الجديدة.
لم تأت رسالة الرئيس "ماكرون"، والمغرب يحتفل بالعيد الفضي لحكم
الملك محمد السادس، صدفة أو هدية للمغرب والمغاربة، بل كانت نتيجة قراءة عميقة لمصالح
فرنسا ومستقبل مكانتها في المنطقة المغاربية والأفريقية، كما كانت منسجمة مع مواقف
الدول الكبرى التي سبقتها. فغير خاف على المُطالع اللبيب لما آلت إليه أرصدة قوة
فرنسا في السنوات الأخيرة، أن ثمة تراجعا وتقهقرا، وأن صورة فرنسا خُدشت بفعل
عوامل كثيرة؛ أبرزها الوعي المتنامي للأفارقة، ومطالبتهم بإقامة علاقات جديدة مؤسسة
على التعاون الجدي والربح المتبادلين، ونبذهم، في مقابل استمرار النزعة
الاستعمارية بكل أشكالها فوق أراضيهم وفي بلدانهم.
رسالة الرئيس "ماكرون"، المُعلنة رسميا عن الاعتراف بالحل المغربي لقضية صحرائه، سيكون لها ما بعدها
ولأن المغرب نجح بشكل واضح في إعادة تأسيس علاقات متوازنة مع مجمل الدول الأفريقية،
وتمكن من إقامة مؤسسات للتعاون مبنية على فكرة الربح المتبادل، فقد غدا واجهة لا
غنى عنها لربط الجسور مع أوروبا، وهو ما تحتاج إليه فرنسا، إن هي اقتنعت بإعادة
بناء علاقات وشراكات جديدة مع القارة الأفريقية، ومن هنا تحتاج إلى المغرب، بحسبه
شريكا مُقنعا وفعالا، وصادقا مع أفريقيا. ثم إن حاجة فرنسا للمغرب كبيرة ولا غنى
عنها، فهي من القوى الاستعمارية التي خرجت من المغرب عام 1956، محافظة على مصالح
حيوية، سياسية واقتصادية وتجارية وثقافية، وظلت على الدوام حاضرة في النسيج العام
للمغرب.
لا شك أن رسالة الرئيس "ماكرون"، المُعلنة رسميا عن الاعتراف
بالحل المغربي لقضية صحرائه، سيكون لها ما بعدها. فمن جهة، ستكتسي العلاقات
المغربية الفرنسية حرارة جديدة وتخرج من دائرة الجفاء والبرودة، ومن جهة أخرى،
ستتحرر فرنسا من التردد وعدم الوضوح، وتُقدم على مواقف جديدة، سواء في إطار
عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، أو من خلال تواجدها في المؤسسات والمنتديات
الدولية ذات العلاقة بالنزاعات الدولية عموما، والنزاع المفتعل حول الصحراء
المغربية على وجه الخصوص.. إنها صفحة طُويت، بعدما ظلت ملتبسة في علاقة فرنسا
بالمغرب، والعمل المطلوب الآن، تجسيد الروح التي سكنت رسالة الرئيس "ماكرون"،
الموجهة إلى العاهل المغربي في الذكرى الفضية لحكمه.