لا تبدو صورة
فرنسا اليوم واضحة، بل إنها تعبر عن حالة بلد تتناسل الأسئلة بشأن حاضره،
ومعالم مستقبله، والحقيقة أن الصورة الرمادية، المخيفة والمقلقة لفرنسا، شرعت في
التكون منذ السنوات الأولى من ولاية
ماكرون الأولى، حين اخترقت موجة عارمة من
التصدع والاحتجاج نسيج المجتمع، قادتها حركة أصحاب "السترات الصفراء"، ومن
انتصر لمطالبهم من المواطنين، واستمرت، وإن بإيقاع أقل مع انتشار وباء كورونا، وما
خلف من آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية ومالية. وعلى الرغم من الرصيد المتواضع
لأداء الرئيس ماكرون خلال ولايته الأولى، لم يكن أمام الفرنسيين بدائل حقيقية للتغيير،
واستبدال رئيسهم بآخر أكثر إقناعا، وأجدر بتحمل مسؤولية قيادة البلاد، بل تمت
إعادة انتخاب ماكرون لولاية ثانية، قضى منها حتى الآن نصفها وما يزيد بشهور قليلة (2022-2027).
لم يستطع ماكرون مراكمة إنجازات فعلية مقنعة للناخبين، بل تراجعت شعبيته، وتآكلت
مشروعيته الانتخابية والسياسية.
تُجمع الكثير من الأدبيات والتحليلات على تراجع الخطاب السياسي في فرنسا،
وتقهقر صورة النخب السياسية المتنافسة، وانتهاء زمن الشخصيات السياسية المؤثرة في
تطور البلاد، لعل آخرها الرئيس جاك شيراك، الذي انتخب لولايتين متعاقبتين. وموازاة
لهذا المنحى التقهقري في تطور الحياة السياسية الفرنسية، ثمة تصاعد متزايد لليمين
المتطرف، مجسدا في حزب "التجمع الوطني"، الذي قاده الرئيس المؤسس "جان
ماري لوبين" منذ العام 1972 وحتى 2011، قبل أن تتسلمه ابنته "مارين"
ما بين 2011 و2021، وليتولى قيادته " جوردان
بارديلا" (Jordan Bardella) منذ أيلول/
سبتمبر 2021.
تُجمع الكثير من الأدبيات والتحليلات على تراجع الخطاب السياسي في فرنسا، وتقهقر صورة النخب السياسية المتنافسة، وانتهاء زمن الشخصيات السياسية المؤثرة في تطور البلاد، لعل آخرها الرئيس جاك شيراك، الذي انتخب لولايتين متعاقبتين. وموازاة لهذا المنحى التقهقري في تطور الحياة السياسية الفرنسية، ثمة تصاعد متزايد لليمين المتطرف،
فخلال هذه المسيرة الطويلة للتجمع (52 سنة)، ظل
اليمين المتطرف وأنصاره يطورون
استراتيجيات عملهم، ويسعون إلى توسيع قاعدتهم الاجتماعية، ويزحفون على المكاسب
الانتخابية والمنافع السياسية، وقد ألزموا الطبقة السياسية الفرنسية في أكثر من
استحقاق انتخابي رئاسي على التكاتف والتعاضد من أجل الوقوف أمام زحفه المتزايد،
كان آخر فصولها الاقتراع الرئاسي عام 2022، حين نافست مارين لوبين الرئيس ماكرون في
الجولة الثانية، وفازت بقرابة 42 في المائة من أصوات الفرنسيين.
أذهلت نتائج
الانتخابات الأوروبية الأخيرة (6-9 حزيران/ يونيو 2024)،
أوروبا والعالم، وصدمت الفرنسيين، حين فاز اليمين المتطرف بـ31.5 في المائة من
الأصوات، متقدما على كل
الأحزاب السياسية الفرنسية المنافسة له، وبسبب عمق الصدمة
الناجمة عن هذا الفوز، بادر الرئيس ماكرون إلى إعمال حقه الدستوري في حل البرلمان،
والدعوة إلى تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، يومي 30 حزيران/ يونيو و7
تموز/ يوليو 2024.
ربما كان اعتقاد الرئيس أن حل البرلمان سيدفع بالفرنسيين إلى التكتل من جديد
والظفر بنتائج تمكنهم من إيقاف زحف اليمين المتطرف، على شاكلة ما وقع في الاقتراع
الرئاسي لعام 2022، والحال أن اللحظتين السياسيتين مختلفتان في الطبيعة والسياق. لذلك،
كان ردود فعل الطبقة السياسية، حتى من داخل الأغلبية الرئاسية، منتقدة لقرار
الرئيس بحل البرلمان، واللجوء إلى تنظيم انتخابات تشريعية قبل الأوان، بل إن آراء
وازنة من قبل سياسيين فرنسيين اعتبروا الرئيس مسؤولا عن حالة الشك وعدم اليقين
التي تعيشها فرنسا اليوم، والتي لا تظهر بما يكفي من الوضوح إلى ما ستؤول إليه الحياة
السياسية الفرنسية في أعقاب الإعلان عن نتائج الاقتراع التشريعي بدورتيه.
ومما أثار الشعور بالقلق وعدم اليقين لدي فئات واسعة من الفرنسيين، وزاد من
تخوفهم من فوز اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، انقسام الأحزاب التي لها
مصلحة في إيقاع هزيمة بهذا الأخير، والمقصود هنا تحديدا أحزاب اليسار بكل أطيافها
وحزب الأغلبية الرئاسية الحاكمة. فالكل ينتقد تصاعد قوة اليمين المتطرف، والكل لا
يمتلك الإرادة الصادقة لبناء تحالف واسع لإيقاف زحف حزب التجمع الوطني،
مما أثار الشعور بالقلق وعدم اليقين لدي فئات واسعة من الفرنسيين، وزاد من تخوفهم من فوز اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، انقسام الأحزاب التي لها مصلحة في إيقاع هزيمة بهذا الأخير، والمقصود هنا تحديدا أحزاب اليسار بكل أطيافها وحزب الأغلبية الرئاسية الحاكمة. فالكل ينتقد تصاعد قوة اليمين المتطرف، والكل لا يمتلك الإرادة الصادقة لبناء تحالف واسع لإيقاف زحف حزب التجمع الوطني
والخوف كل
الخوف أن يُفضي هذا الانقسام وضعف إرادة البناء المشترك إلى تعزيز صفوف اليمين
المتطرف، وتمكينه من الفوز بالأغلبية المطلقة في البرلمان المقبل، المكون من 925
عضوا، 348 في مجلس الشيوخ و577 في الجمعية الوطنية، والحال أن الأغلبية المطلقة
المطلوبة في هذه الأخيرة هي 290 عضوا في الجمعية الوطنية.
فلو افترضنا انتصار اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، وفوزه بالأغلبية
المطلقة، فستجد فرنسا نفسها أمام وضعية شديدة التعقيد والخطورة، لأن الحزب الفائز سيكون
الوزير الأول من داخله بحسب أحكام الدستور، وإلى جانب رئيس دولة لم تنته ولايته
بعد، وبرلمان بمثابة رداء الأغلبية لحماية الوزير الأول والحكومة، ويمتلك أعضاؤه
قدرة المبادرة التشريعية، كما هو حال وزرائه، وفي الآن معا هناك رئيس دولة يضمن له
دستور الجمهورية الخامسة (4 تشرين الأول/ أكتوبر 1958)، الكثير من الصلاحيات تجاه
الحكومة والبرلمان معا.. فكيف ستدار فرنسا إذن في حال تحقق هذا المشهد أو
السيناريو؟
لم يرد في خلد ولا تفكير واضعي دستور الجمهورية الخامسة حدوث مثل هذه
الوضعيات، ولا في كيفية إدارتها، لكنها حصلت أكثر من مرة في عهد كل من فرانسوا
ميتران، وجاك شيراك، فاجتهد الفقه الدستوري والقانوني في إبداع فكر "التعايش"
(cohabitation)، من أجل
ضمان تدبير شؤون البلاد. وهي حالة مألوفة في نظم دستورية وسياسية كثيرة، منها النظام
الفيدرالي الأمريكي. ومع ذلك، لن يكون التعايش في فرنسا هذه المرة سهلا ولا ميسرا،
لأن اليمين المتطرف يروم إحداث تغيير جذري في أسس العيش المشترك المألوف في فرنسا،
لا سيما في أربع قضايا مفصلية، هي: الهوية والانتماء إلى الأرض (droit au sol)، والهجرة
والمهاجرون، والإسلام والمسلمون، والحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وموقف فرنسا
منها.. إنها القضايا التي ستقصم ظهر فرنسا وربما تفتحها على المجهول.