بدموعه الحارقة أبكى المواطن التونسي (سامي براهم) ملايين الناس الذين شاهدوه عبر شاشات التلفاز في جلسة الاستماع العلنية التي عقدتها هيئة الحقيقة والكرامة بتونس، قال سامي باكيا بعد أن روى تفاصيل تعذيبه البشعة من قبل أجهزة النظام السابق مخاطبا من وصفهم بالجلادين: أوجه نداء للجلادين أن يجيئوا إلى هنا ويعترفوا ويعتذروا ويحكوا لنا لماذا عذبونا؟ هل كان لديهم موقف إيديولوجي منا؟ هل كانوا يريدون الترقي بتعذيبنا؟ هل كانوا مجبرين على تعذيبنا؟ أنا مستعد لأن أغفر لهم بشرط أن يأتوا ويعتذروا، لا أريد أن أتتبع أحد، لكن أريد فقط تسجيل الحقيقة حتى يسجلها التاريخ حتى لا تتكرر هذه الممارسات، حتى لا يحدث لأبنائنا ما حدث لنا!
هيئة الحقيقة والكرامة هيئة مستقلة تشكلت بقرار حكومي وأدت يمينها الدستوري أمام الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي عام 2014، ومهمتها الرئيسية الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي التونسي، حيث تتولى الهيئة كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها في عهدي بورقيبة وبن علي.
تعرف الهيئة العدالة الانتقالية بأنها (مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقّق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان).
الهيئة لا سلطان قضائي لها وليست مؤهلة للنظر في إدانة الأفراد من عدمها وإنما تقوم بتحديد المسؤوليات وإحالة الملفات للدوائر القضائية المتخصصة حسب القانون، كذلك تطبق آليات التحكيم والمصالحة وهي آلية خاصة لفض النزاعات عبر لجنة متخصّصة منتخبة أسند إليها القانون مهمة البت في النزاع التحكيمي بموجب اتفاقية تحكيم ومصالحة وهي آلية اختيارية، تضمن المرونة وسرعة الفصل في النزاع، وتوفّر مجالا لحلّ الخلاف وديّا عبر تقريب وجهات النظر والصّلح الذي يكون توافقيا، وتحفظ السريّة، كما تدعم المصالحة الوطنية وذلك من أجل تحقيق أهداف العدالة الانتقالية وتستعين بأعوان مقرّرين وخبراء في القانون والمحاسبة والمالية والطب وغيرهم من ذوي اختصاص في التحكيم والمصالحة وذلك طبق دليل إجراءات خاصّ متعلّق بالتحكيم والمصالحة ( مختصر بتصرف من موقع الهيئة).
من المفارقات التي تخص مسألة العدالة الانتقالية في مصر أن بيان 3 يوليو 2013 تضمن هذه العبارة (- تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات) ولم يشهد هذا البند تفعيلا حقيقيا وسط أجواء خطابات الكراهية واستباحة قتل المخالفين والتهليل لقتل الناس خارج إطار القانون لتبتعد مصر تماما عن منظومة العدالة الانتقالية المفترضة والحتمية.
تعلمنا في دراسة الطب أن الجرح لا يبرأ قبل أن يتم تطهيره من كل الأدران وتنظيفه بعناية حتى يبدأ الالتئام وتتم عملية الشفاء، وهذا ما تحققه منظومة العدالة الانتقالية لأي بلد مر بظروف قاسية من القمع والانتهاكات والانقسام المجتمعي، العدالة الانتقالية لا تعني دوما عقاب المتورطين بل يحتل التسامح والعفو فيها الجزء الأكبر لأنها تهدف لتوحيد المجتمع وإنهاء الثأر الاجتماعى والشقاق المحتدم والضغائن.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في مصر الآن هل سنستطيع العيش معا مرة أخرى كمجتمع واحد وشعب واحد؟ بعد الأهوال التي عايناها بعد أن استحلت الدماء وتكرر الرقص على الأشلاء وتصاعدت لغة الشماتة في الموت وشيطنة الآخر؟
ربما يرى البعض أن عودة الوئام الوطني في مصر صار أمرا مستحيلا لكن الحقيقة أنه لم يعد أمرا رفاهيا ولا خيارا بل هو واجب لإنقاذ مصر كلها من نيران الكراهية وضغائن الشقاق التي تعصف بالمستقبل وتقودنا إلى مصير جماعي مظلم لن ينجو منه أحد.
من المتعمد بخبث حصر مسألة الوئام الوطني والمصالحة بين طرفين فقط هما السلطة وجماعة الإخوان ليكون ذلك مبرر لتخوين دعاة المصالحة الوطنية من قبل أنصار الطرفين، بينما الحقيقة أن الوضع في مصر أكثر تعقيدا وكارثية واتساعا من حصره في هذا الصراع الصفري البائس بين السلطة والإخوان.
الشقاق المجتمعي في مصر أصاب المجموع رأسا وأفقا، في المدينة الواحدة والقرية الواحدة والعائلة الواحدة بل في الأسرة الواحدة ستجد ملامح هذا الشقاق والانقسام المريع، لذلك فالمسألة ستكون أصعب بكثير وقد تأخذ وقتا أطول بافتراض توفر المناخ الصحي الذي يزرع بذور العدالة الانتقالية ليحقق المصارحة والمصالحة.
رغم الأفق القاتم في مصر وتفشي الإحباط وتدهور الأحوال من سيء إلى أسوأ، إلا أن واجب العقلاء في كل التيارات هو التمسك بضرورة تحقيق الوئام الوطني ولم شمل المصريين بمختلف اتجاهاتهم وتهيئة المناخ حتى يمكننا أن نرى أمثال سامي براهم في مصر يتحدثون ونرى من أساؤوا للمصريين يُحاسبون ويعتذرون وتخرج مصر من وحل الكراهية والانقسام المجتمعي، قد لا تكون مصر مثل تونس الآن، لكنها تستطيع أن تلحق بها يوما ما وتسبقها، كونوا ضد الكراهية وناضلوا من أجل الإنسان.