تدمن الأنظمة الحاكمة تزييف التاريخ وكتابته طبقا لهواها بحيث يسهم في تمجيدها وتأليهها في نفس الوقت الذي تشيطن فيه كل خصومها ومعارضيها ومن لا يروق لها، في التاريخ الإنساني يقولون إن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ كما يتراءى له، بعيدا عن أي معايير موضوعية، أما في تاريخنا العربي فنحن ندمن تحويل الهزائم المروعة إلى انتصارات هائلة مبهرة ولا يخجل المزيفون للتاريخ من صناعة الأكاذيب والأساطير حول الطغاة والحكام الذين يرتكبون هذه الجريمة لنفاقهم والتقرب إليهم عالميا وصفت أمريكا مجزرة هيروشيما (أحد أكبر المذابح في تاريخ البشرية) بأنها كانت عمل إنساني لصالح البشرية لتخليصها من الحروب ورفع المعاناة عن اليابانيين! بينما في مصر تم وصف الهزيمة المروعة في 5 يونيو 1967 بالنكسة!
قاد مجموعة من العابثين المستبدين الأمة العربية إلى هزيمة منكرة لا يمكن تصور حدوثها رغم مرور 50 عام على الأحداث، تم تدمير الطائرات المصرية فى مطاراتها ومهابطها دون أن تحلق في طلعة واحدة، أما البشر فقد قتل نحو 9800 إلى 15,000 جندي مصري كما أسر 4338 جنديا مصريا أما الخسائر الأردنية فهي نحو 6000 جندي قتلوا أو في عداد المفقودين كما أسر 533 جنديا، ونحو 2500 جريح؛ أما في سوريا فقد سقط نحو 1000 جندي و367 أسيرا.
تم تدمير 209 طائرات من أصل 340 طائرة مصرية، وحول مجمل خسائر مصر العسكرية من كتاب الفريق أول محمد فوزي أن الخسائر كانت بنسبة 85% في سلاح القوات البرية، وكانت خسائر القوات الجوية من القاذفات الثقيلة أو الخفيفة 100%، و87% من المقاتلات القاذفة والمقاتلات، كما اتضح بعد المعركة أن عدد الدبابات مائتي دبابة تقريبا دمر منها 12 دبابة وتركت 188 دبابة للعدو، كما دمرت 32 طائرة سوريّة وسجلت نسبة استنزاف كبيرة في المعدات، أما في الأردن فقد بلغ عدد الطائرات المدمرة 22 طائرة، وحسب بعض التحليلات فإن نسب الاستنزاف في المعدات العربيّة وصلت إلى 70 - 80% من مجمل طاقتها.
سقطت سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان في يد الصهاينة بينما قامت المظاهرات المضحكة في مصر تطالب ببقاء قائد الهزيمة وتهتف بالشعار الشهير (لا تتنحى) لمن وعد بإلقاء اسرائيل في البحر ثم تسبب مع حاشيته من المهرجين في سقوط ثلث مساحة مصر في يد الصهاينة وسقوط القدس واقتراب الجيش الصهيوني من مشارف القاهرة في مدينة السويس التي تفصلها ساعة عن القاهرة!
يقول الاستاذ محمد حسنين هيكل عن المشير عامر أحد أهم صُناع الهزيمة المروعة : "إن عبد الحكيم عامر كان نصف فنان ونصف بوهيمي، ولطيفـًا جدًا، ولكنه عسكريـًا توقف عند رتبة الصاغ، أي أنه يستطيع أن يقود كتيبة لكنه لا يستطيع أن يقود جيشـا".
وقال اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية أثناء حرب أكتوبر نصار عن هزيمة يونيو: "نعم... عبد الحكيم عامر هو المسؤول عنها، كيف يتحول رائد شاب إلى مشير بقرار واحد ليكون قائدًا للقوات المسلحة، عملية الترقية هذه كانت ذات دوافع شخصية كاملة"، وكتب الدكتور لويس عوض ساخرا: "إذا أردت أن تجرب تجربة محمد علي فلا بدَّ أن يكون لديك إبراهيم باشا والكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي). أما أن تجرب تجربة محمد علي ومعك الصاغ عبدالحكيم عامر، الذي كان كلما خسر حربـًا انتقل إلى رتبة أعلى، فهذا أقصر طريق إلى الكوارث القومية"!!
نكبة 67 لم تكن هزيمة عسكرية فقط ، ولم تسقط فيها أراضي مصرية وعربية تحت الاحتلال فقط، ولم تتحطم فيها القوة العسكرية للجيوش العربية فقط بل سبقها تدمير التعليم وخنق الصحافة وقتل حرية الإعلام وإلغاء الأحزاب السياسية وتجميدها، وتأميم المجال العام لكيانات أحادية تافهة أنشأها الحاكم لتمجيده ونفاقه، وإنشاء برلمانات صورية صنعتها أجهزة النظام لتكون أداة لتنفيذ رغباته والتسبيح بحمده، وتخويف المجتمع عبر ممارسة القمع والاخفاء القسري والاعتقال العشوائي والتعذيب الممنهج، ودعم إعلام الكذب الذي كان يصور الهزيمة على أنها انتصارات وطائرات للعدو تتساقط، وأوصلنا هذا الإعلام السافل إلى وهم أننا نقترب من دخول تل أبيب بينما كانت الحقيقة أن الجيش الصهيوني يدق أبواب القاهرة التي كانت ترزخ تحت نير القمع والاستبداد باسم حماية الوطن من المؤامرات.
نكبة يونيو 67 رسخت حقيقة للتاريخ أن الاستبداد لا يحمى الأوطان، وأن كل طغيان وقمع للناس يعقبه انهيار حتمي قد لا يكون عسكريا بالضرورة بل اقتصادي واجتماعي وقيمي وغيره، لكنه في النهاية انهيار مهما بدا غير ذلك من استقرار هش تحت أسواط الجلادين.
قراءة التاريخ هامة، وإعادة مراجعته وتمحيصه أكثر أهمية، حتى لا ينعم الطغاة الفاشلون بشرف لا يستحقونه، إذا كنا نشكومن تزييف التاريخ الذي مر عليه خمسون عاما فقط، فهناك تاريخ للثورة المصرية العظيمة ثورة 25 يناير يتم تزويره الآن واختراع سرديات من الإفك تشوه هذه الثورة لصالح الاستبداد وهذا يوجب على كل حر أن يوثقها بكل ما أوتى من قوة ، الحرب على ذاكرة الشعوب مستمرة فلنتعلم مما مضى حتى يتحقق حلم الديموقراطية.