سلط المركز الليبي للبحوث والتنمية الضوء على تنازع الأطراف في
ليبيا على الشرعية، بعيد قرار المحكمة الدستورية في عدم شرعية مجلس النواب، كما نوه إلى السيناريوهات المحتملة في ليبيا في ظل تنازع الشرعية.
وأشارت الدراسة لحدوث التشابه بين الواقع المصري بعد حل البرلمان في سنة 2012، وما وقع بعدها من ترتيبات سنة 2013، مضيفا أن ذات الشيء حدث في اليمن، كما ظهرت أيضا بوادره في تونس، وتساءلت الدراسة عن الخلل هل هو في مصدر الشرعية أم في الآليات التي اعتمدتها الثورات؟.
ولفتت الدراسة النظر إلى اكتساب المجلس الوطني الانتقالي الليبي للشرعية، كونه ولد من رحم ثورة فبراير بعضوية شخصيات عامة مؤيدة لها، وأصبح ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، وكان هناك ما يشبه التوافق التام على شرعية المجلس على مدار العام الأول بعد مقتل القذافي في أكتوبر 2011.
وأوضحت أيضا أن التحديات التي تواجهها الثورات بما في ذلك الاختلافات بين الشركاء تتحول إلى صراعات، وأشارت إلى أن القوى المتضررة من الثورة تعمل باتجاه تشكيل ثورة مضادة تدفع بالمشهد إلى تعقيدات كبيرة؛ من أبرزها إثارة سؤال شرعية النظام الجديد وقدرته على التحكم في البلاد وفرض الأمن فيها.
وبينت أن جملة من التطورات ساهمت في التشكيك بقدرات النظام وشرعيته بعضها متعلق بمطالب مكونات اجتماعية مناطقية وقبيلة وبعضها متعلق بالسعي للنفوذ، فانعكست مواقفها في شكل ممارسات كسرت هيبة وشرعية المؤسسات، كذلك ساهمت تلك المؤسسات من خلال مواقفها وقراراتها في تأزيم الوضع، في إشارة إلى فترة المؤتمر الوطني العام وأيضا تكرار الشيء ذاته في مجلس النواب.
وذكرت أيضا جملة من العوامل التي أثرت في شرعية المؤسسات المنتخبة وما انبثق عنها من حكومات؛ أبرزها الضغوط الجهوية وحراك مجموعات لها علاقة بالنظام السابق والكتائب المسلحة وانتشار السلاح، كذلك الدور السلبي الذي لعبه الإعلام في تشكيل الرأي العام باتجاه تقويض الشرعية وتجزئتها، وأيضا ثقافة الفوضى واللامسؤولية التي خلفها حكم الفرد طيلة اثنتين وأربعين سنة من عرقلة أي مسعى لتجاوز الأزمات والتكيف مع المتغيرات.
وأشارت الدراسة لأسباب خارجة عن إرادة السلطة الجديدة بعد الثورة (المجلس الانتقالي) أربكت المشهد الليبي وبعضها من صنعها أو لعدم قدرتها على التحكم فيها، إذ يرى العديد من المراقبين أن المجلس الانتقالي استعجل بالقفز إلى فكرة تعزيز الشرعية عبر الانتخابات، واعتماد التعددية كبديل لتحقيق الديمقراطية، وانهمكت في تفاصيل جزئية دون أن تدري ما يحاك في الداخل والخارج، ودون إدراك حقيقي لحجم التحديات، منها ما هو متعلق بثقافة المجتمع ومنها ما هو متعلق بشبكات مصالح جديدة لها علاقة ببعض من عرفوا بنضالهم ضد القذافي، وأيضا شبكات النظام القديم في الداخل والخارج والتي يبدوا أنها قادرة على إعادة تدوير ذاتها بطريقة سلمية أو غير سلمية، كل هذه العوامل تراكمت في الواقع الليبي وساعد في تعميقها عدم وجود دولة حقيقية ولا مؤسسات حاكمة يمكن أن يعتمد عليها في ضبط المسار الانتقالي.
وفي ذات السياق أوضحت الدراسة أن التنازع حول الشرعية وعدم التوافق على منطلق واضح لحماية الثورة وتكريس شرعيتها بالتدرج، سبب في ظهور التناقضات والخلافات الحادة حول العديد من القضايا بهذا الصدد، فقد حاول طرف من داخل المجلس الانتقالي الدفع باتجاه إصدار قوانين ضرورية لحماية الثورة الناشئة، فيما عارضهم آخرون بدعوى تقديم نموذج لاحترام الحقوق والتسامح، مما جعل الانتقال مرتبكا وأنتج نموذجا هجينا، كما مثل الفشل في بناء المؤسسات الأمنية أو وضع الأساس الصحيح لها مثلا إخفاق المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي ثم المؤتمر الوطني والحكومات المنبثقة عنه، ليتفجر الصراع والتنازع حول الشرعية كما هو جلي اليوم.
سيناريوهات المستقبل في ظل الصراع الراهن
وأكدت الدراسة أن المسار الانتقالي المتعثر وما صاحبه من اختلالات أمنية خطيرة وحراك نخبوي وشعبي معارض للسلطة القائمة مهد الطريق لظهور حركات وعمليات دفعت باتجاه صدام الشرعية، وأشارت إلى أن اللواء المتقاعد "
حفتر" قد سبق غيره بالدعوة علنا لوقف المسار الانتقالي وتجميد الدستور وحل السلطة الشرعية المتمثلة في المؤتمر الوطني العام، في دعوة صريحة لانقلاب عسكري وبقوة السلاح مستنسخا ما وقع في مصر.
وأضافت أيضا أن عدة أسباب جعلت اللواء "حفتر" يغير من استراتيجيته إلى دعوة لمحاربة الإرهاب في مدينة بنغازي، موضحة أنها كانت من أبرز عوامل الانقسام حول الشرعية.
وأضافت أنه في حين إطلق "حفتر" عمليته العسكرية، سارعت قوات الدروع ومن ساندها من مجالس عسكرية في 17 مدينة في الغرب الليبي بالتحرك ضد الكتائب التي أعلنت مناصرتها لعملية الكرامة وزعيمها اللواء "حفتر"، ونوهت إلى أن البرلمان المنتخب انتهج مسارا سياسيا أصدر فيه قرارات أثارت جدلا كبيرا؛ من بينها دعم
عملية الكرامة وتجريم عملية
فجر ليبيا، بحيث صار مجلس النواب في نظر فجر ليبيا وأنصارها منحازا لطرف سياسي وعسكري، ثم تطور الأمر بإصدار المحكمة العليا لقرارها المفاجئ الذي قضى بحل البرلمان مما فسح المجال لعودة المؤتمر الوطني العام الذي كان محلا لرفض قطاعات واسعة من الليبيين، لتصل البلاد إلى انقسام للشرعية بوجود سلطتين تشريعيتين، ويتسع المجال للقوة لفرض الشرعية بعد أن غاب الخيار السياسي وتم رفض حكم المحكمة العليا من قبل البرلمان، حيث التهبت ساحات المعارك في الشرق والغرب لفرض الإرادة ومن ثم الشرعية، وساهم ارتباك الموقف الدولي في تأجيج الصراع.
وأوضحت الدراسة أنه في ظل هذا الانقسام الواضح مع عدم تغلب طرف على طرف فإنه يتوقع وقوع إحدى السيناريوهات الثلاثة.
الأول وهو السيناريو المرجوح وذلك لعدم وجود مؤشرات على إمكان تحققه، ويقوم هذا السيناريو على إدراك الأطراف كافة أن ليس لديها الإمكانية للحسم عسكريا وأن ثمن استمرار المواجهات خطير وكلفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية باهظة، ومن ثم تتجه جميعها نحو الحوار والتوافق – برعاية إقليمية أو دولية – على خارطة طريق جديدة تستكمل الانتقال الديمقراطي والبناء المؤسسي وتعالج كافة القضايا العالقة.
السيناريو الثاني حسب الدراسة هو تمسك كل طرف بمواقفه ومن ثم استمرار نزاع الشرعية، فبرلمان طبرق ما زال يرى أن الأطراف الدولية أو بعضها تناصره وأن لديه تأييد شعبي وقوة عسكرية، وهو بالتالي ما زال قارا على فرض شروطه.
وبالمقابل أو على الضفة الأخرى فإن فجر ليبيا ترى أنها صاحبة الشرعية بعد قرار المحكمة وأنها تحظى بدعم شعبي خاصة في الغرب الليبي وأن قدراتها العسكرية قادرة على تغيير المعادلة وفرض الشرعية بالقوة، ونتيجة هذا السيناريو ستكون هناك نجاح أحد الطرفين في قهر الطرف الآخر وفرض شرعيته بقوة السلاح ثم السماح للمسار الانتقالي أن يستمر، أو فشل الأطراف في الحسم وبالتالي مزيد من تقويض أسس الدولة الغير راسخة أساسا وشيوع الدمار وربما التقسيم وما يتبعه من تبعات خطيرة ظهر بوادر بعضها، منها النزوح وحتى التهجير وتفكيك التشابكات الاجتماعية، يرافق هذا مزيد من التدخل الإقليمي والدولي الغير محمود العواقب خصوصا مع دفع أطراف إقليمية باتجاه اعتبار بعض الجماعات الليبية المعتدلة جماعات إرهابية وتوسيع أهداف التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليشمل مناطق ليبية، وأيضا ظهور مجموعات ربما ستعلن ولائها تنظيميا للدولة الإسلامية وتدخل البلاد في صراعات دولية شديدة التعقيد.
السيناريو الأخير يتمثل في وتيرة الصراع المسلح صعودا وهبوطا، مع جنوح البعض نحو حوار تدعمه أطراف إقليمية ودولية، للوصول لتوافق في الأرجح يكون توافقا هشا يأخذ شكل هدن غير دائمة، وصولا لإقرار اتفاق أشبه بالاتفاق الخليجي بشأن اليمن يقضي لاستقرار مؤقت تستبطن أهداف الثورة وتستطيع صياغتها في نصوص دستورية وقانونية وسياسات تحقق قدرا من الرضا لليبيين في التنمية والنهوض والدخول في سيناريو الجمود الذي تشهده لبنان منذ عقود.