أقر مجلس النواب الليبي في جلسته الأخيرة
ميزانية بحجم إنفاق بلغ نحو 180 مليار دينار ليبي، وبزيادة بلغت الضعف عن الميزانية
التي أقرها المجلس للسنة الماضية، معتبرا أنها ميزانية موحدة تغطي كافة النفقات في
كافة ربوع البلاد. غير أن الخطوة التي أقدم عليها المجلس كانت محل جدل ومعارضة
لجملة من الأسباب أهمها ما اعتبره البعض تجاوزا قانونيا يقدح في شرعية فعل المجلس،
وأنها ميزانية بأرقام فلكية لم توضع لها دراسات ولا سبقها تخطيط سليم وستقود
البلاد إلى مزيد من التأزيم
الاقتصادي.
البداية في تناول هذا الموضوع ينبغي أن تكون
من خلال طرح سؤال جوهري وهو: لماذا هذا الرقم الكبير؟ ليعقبه سؤال منطقي هو: هل
يمكن تمويل هذه الميزانية الكبيرة دون أن يترتب عن هذا التمويل تداعيات اقتصادية
مؤلمة؟
هناك فروقات وإضافات عديدة في هذه الميزانية
عن الميزانيات السابقة، لكن التغير الكبير وقع في الباب الثالث وهو باب التنمية،
والباب الرابع وهو باب الدعم، ذلك أن الأبواب الأخرى من مرتبات وإنفاق تسييري لم
تتغير إلا قليلا.
الجميع يدرك أن من بين أهم أسباب الصراع في
البلاد هو السيطرة على موارد الدولة وإدارتها بشكل منفرد، وعندما صارت السيطرة على
عوائد النفط بقوة السلاح غير ممكنة في ظل الظروف المحلية والدولية الراهنة، أصبح
تقاسمها هو الخيار، لهذا يمكن القول إن الميزانية الأخيرة برقمها الكبير، هي وسيلة
احتواء الصراع ومنع تكرار الحروب بالنسبة لمنظري فكرة تقسيم الموارد، والتي أطلق
عليها مزاجا أو تورية "ميزانية موحدة".
بمعنى آخر، فإن الفرقاء المعنيين بمسار
التسوية السياسية أخفقوا في توحيد المؤسسات والتوافق على حكومة موحدة، فلجأوا إلى
"الميزانية الموحدة" التي تقسم على حكومتين، في الغرب والشرق، والبند
الأهم في هذا التقسيم هو نفقات التنمية والإعمار، ليشرعنوا الانقسام أكثر ويتجهوا
به إلى مستوى أعلى.
الجميع يدرك أن من بين أهم أسباب الصراع في البلاد هو السيطرة على موارد الدولة وإدارتها بشكل منفرد، وعندما صارت السيطرة على عوائد النفط بقوة السلاح غير ممكنة في ظل الظروف المحلية والدولية الراهنة، أصبح تقاسمها هو الخيار، لهذا يمكن القول إن الميزانية الأخيرة برقمها الكبير، هي وسيلة احتواء الصراع ومنع تكرار الحروب بالنسبة لمنظري فكرة تقسيم الموارد، والتي أطلق عليها مزاجا أو تورية "ميزانية موحدة".
البابان التقليديان، المرتبات والإنفاق
التسييري، لم يشهدا تغييرا، نحو 60 مليار دينار للمرتبات، ونحو 10 مليارات للإنفاق التسييري،
والفارق الكبير في الميزانية بعد اقتطاع المرتبات والتسييري هو نحو 110 مليارات دينار ذهبا أكثره للدعم والتنمية. فالدعم الذي ظل لسنوات في حدود 20 مليار دينار،
تجاوز الـ 40 مليار في الميزانية الجديدة وذلك بسبب رفع قيمة دعم المحروقات أضعافا مضاعفة ليبلغ 35 مليار دينار، وهو رقم لا يعبر عن حقيقة الاحتياجات المحلية من
البنزين والديزل، وإنما يوافق مصالح الفاسدين المتلاعبين بهذا البند بشكل غير
قانوني بل إجرامي.
التنافس، الذي يبدو على أشده بين الحكومتين،
هو في باب التنمية والإعمار، وقد تحول هذا البند إلى وسيلة للدعاية وجذب المؤيدين
والأنصار، وهو أمر جيد أن يتحول التنافس على توسيع قاعدة المناصرين عبر مشروعات
التنمية وليس الحروب، إلا أن هذا التنافس يشوبه هدر وفساد كبيرين، وهما مرشحان إلى
الزيادة في هذه الميزانية التي جعلت الكعكة كبيرة جدا.
ما ينبغي الوقوف عليه هو كيف ستمول هذه
الميزانية الهائلة، خاصة أنه قد تقرر أن يكون العجز بمقدار 13 مليار دينار فقط،
أي أن الإيرادات ستكون في حدود الـ167 مليار دينار، وهذا غير ممكن بالنظر إلى محددات
احتساب الإيرادات العامة السنوية للدولة الليبية.
التقدير المتفائل للإيرادات النفطية للعام
2024م يجعلها في حدود الـ21 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل 129 مليار دينار، وقلنا بأنه
متفائل لأن الإيرادات بلغت السنة الماضية 20.7 مليار دولار، ولم يقع تغيير يذكر في
متوسط إنتاج النفط ولا أسعاره.
ولأن مشاركة الإيرادات الأخرى (الضرائب
والرسوم وأرباح الشركات) محدودة لا تتجاوز الـ2% من إجمالي الإيرادات، فإن العجز
المتوقع سيكون أكثر من 45 مليار دينار ليبي، وبالرجوع إلى بيانات المصرف المركزي،
فإن العجز بالدولار يمكن أن يكون كبيرا خلال العام 2024م، فقد بلغ نحو 9 مليارات دولار أمريكي في النصف الأول من العام الجاري.
إقرار الميزانية لا يعني أنها صارت تحصيل
حاصل، لكن هناك مؤشرات على إمكان السير في تنفيذها، من ذلك أن اعتمادها جاء بعد
لقاء بين رئيس مجلس النواب ومحافظ المصرف المركزي، كما أكد عدد من أعضاء المجلس أن
المحافظ تعهد بتغطية الميزانية، يضاف إلى ذلك عدم تعليق حكومة الوحدة الوطنية
عليها، وهي التي تسبق دوما في الاعتراض والاحتجاج بشكل سريع على سلوك مجلس النواب
والمصرف المركزي عندما يكون مرفوضا من قبلها، خصوصا أن الميزانية قدمت لحكومة
الوحدة ما يرضي، وهي الحكومة المنتهية الولاية الغارقة في الفساد بحسب موقف رئيس
البرلمان وأعضائه خلال العامين الماضيين.
علاوة على ما سبق، فإن الميزانية تتوافق
ورؤى وخيارات الأطراف الدولية المتدخلة في الأزمة الليبية والتي صار الحديث عن
توزيع الموارد المالية بعدالة مؤخرا أساسي في خطابات ممثليها، وهذا ربما كان
العامل الحاسم في قبول المحافظ بهذه الميزانية، ذلك أن موقف الأطراف المحلية لا
يؤثر على خياراته، وهذا معلوم من سيرته خلال العشر أعوام الماضية.
في حال تم تنفيذ الميزانية فإن تداعياتها لن
تكون هينة، فالتضخم سيتجه إلى أعلى بلا أدنى شك، وفي الاتجاه المعاكس ستكون وجهة
الدينار الليبي، في مقابل ارتفاع أسعار العملات الأجنبية في سوق الموازية، وهو
مؤكد ليس لأن الميزانية كبيرة والعجز في الإنفاق بالدولار كبير فحسب، فمجلس النواب
والمصرف المركزي لن يتراجعا عن قرارهما بفرض نسبة 27% على بيع العملات الأجنبية،
فالميزانية الجديدة تتطلب ذلك وليس العكس، لذا فإنه سيكون الضغط على الاحتياطي النقدي
كبيرا، والنتيجة النهائية أن الاقتصاد لن يخرج من حلقة التأزيم المفرغة، وسيكون
المتضرر الرئيسي من هذا التوجه هو المواطن.