لم يتوقف الحراكُ الجزائري منذ انطلاقه في الثاني والعشرين من شباط/ فبراير 2019؛ عن تحفيز المشاركين فيه، والمتابعين لتطوره، من داخل المنطقة العربية وخارجها، على طرح أسئلة الحال والمآل. ولعل من أسئلة المآل، الارتدادات الممكنة والمحتملة لما سيحصل في الجزائر بالنسبة لدول جوارها الجيوبوليتيكي في الشرق والغرب والجنوب. أما أهمية سؤال الارتدادات، فتكمن في المكانة الاستراتيجية للجزائر، كدولة ومجتمع وتاريخ وإمكانيات، وما لها من أرصدة التأثير في محيطها القريب والبعيد معا.
لا شك في أن الجزائريين وحدهم هم صُناع حراكهم، وبإراداتهم المستقلة سيحسمون في اختياراتهم، ويرسمون مستقبل نظامهم، أي يُعيدون بناء شرعية سلطتهم ومؤسساتهم. والحقيقة أن هذا ما عبرت عنه أصوات الحراك ونادت به شعاراتُه، حيث أجمع المتظاهرون على أمرين أساسيين غير منفصلين، هما: رحيل رأس النظام ومنظومته، ورفض التدخل الخارجي في الجزائر، ولعل هذا ما يؤكد عناصر القوة في الحراك الجزائري، ويُضفي عليه طابعاً مميزاً، مقارنة مع نماذج من الحراك التي عرفتها المنطقة العربية سابقا.
الجزائريون وحدهم هم صُناع حراكهم، وبإراداتهم المستقلة سيحسمون في اختياراتهم، ويرسمون مستقبل نظامهم، أي يُعيدون بناء شرعية سلطتهم ومؤسساتهم
بيد أن الحراك الجزائري لا يمكن أن يَكتمل ويُنهي فصولَه دون أن تكون له انعكاسات على جواره، القريب والبعيد معا، وهي من نمط الانعكاسات التي يفرضها الموقع الجيوسياسي، وتقتضيها قوانين التأثير المتبادل. ففي شرق الجزائر تجربة انتقال لم تكتمل بعد، ولها من العوامل ما يجعل التأثر والتأثير واردين وممكنين، أي تونس. وفي الغرب هناك بلد لم تُنجز إصلاحاته المطلوب منها بعد، وما زال المواطنون ينتظرون جنيَ ثمارها، والتمتع بنتائجها الملموسة في حياتهم ومعيشهم،
ونقصد المغرب. أما في الجنوب فثمة تحديات أمنية كبيرة مُشرعة على كل الاحتمالات، وقد تستفحل في كل وقت وحين، ونعني شريط الساحل
والصحراء.
لا تسعفنا قراءة ما كتبته أقلام دول الجوار المعنية أو تصريحات قادتها؛ بما يوضح حجم الشعور بالانعكاسات القادمة، ويدُلّ على وقعها على سياسات هذه الدول ومواقفها، باستثناء بعض التلميحات المعبرة عن ضرورة الالتزام بالحياد في شأن ما يقع في الجزائر، وعدم الإقدام على كل ما من شأنه أن يُعتبر انحيازا لهذا الطرف أو ذاك، أو تأييدا لقوة ضد أخرى.
الحراك الجزائري لا يمكن أن يَكتمل ويُنهي فصولَه دون أن تكون له انعكاسات على جواره، القريب والبعيد معا، وهي من نمط الانعكاسات التي يفرضها الموقع الجيوسياسي، وتقتضيها قوانين التأثير المتبادل
ومما لا شك فيه أن احترام إرادة الجزائريين في ما يحصل في بلدهم أمر لازِم وضروري، وأن النأي عن النفس أولوية تقتضيها واجبات الجوار. غير أننا إذا نظرنا إلى الموضوع من زوايا أخرى أكثر عمقا، نلاحظ أن ربما يُضمر التوجس مما يحصل في الجزائر، شعوراً بخطورة تدحرج كرة الثلج، ووعيا متناميا بإمكانية انتقالها إلى فضاءات الجوار، وإن بدرجات مختلفة ومتباينة. ففي تونس ثمة شعور متزايد بأن "ثورة الياسمين" ابتعدت عن الكثير من أهدافها، وأن عملية إرادية وواعية سعت إلى نزع روحها، بُغية استرداد الوضع السابق، وإن بألبسة وآليات مختلفة. وفي المغرب، تضاعف الشعور بعدم تحقق الرهانات التي حملها دستور 2011، والآمال التي عبر عنها المواطنون وهم ينخرطون في دينامية الإصلاح بأفق التغيير. لذلك، هناك خيبة أمل (Désenchantement) في البلدين معا من "الانتقال السياسي" الذي عزّ عليه التحقق والنجاح، ليرسي سيرورة اكتمال قوس "الدمقرطة" في بلاد المغرب.
فمن هذه الزاوية بالذات، يمكن إدراك طبيعة ارتدادات الحراك الجزائري على دول الجوار، وفهم التوجسات غير المعبر عنها صراحة، لكن الكامنة في وعي النخب القائدة في المنطقة وأنسجة مجتمعاتها. لذلك، سيكون لأي تطور إيجابي في مآلات الحراك الجزائري انعكاسات مهمة وعميقة على دول الجوار، وكل نجاح يظفر به الجزائريون في مضمار إعادة بناء شرعية سلطتهم ومؤسسات دولتهم، ستقتسم مجتمعات بلدان الجوار ثماره الطيبة ونتائجه المثمرة.
نجاح الجزائر في حراكها السلمي، الحضاري والمتحضر، والمعبر عن الطموحات العميقة للجزائريين، سيكون نجاحا لكل المنطقة، وسيؤهل هذه الأخيرة لأن تتصالح مع ذاتها الجمعية، وتدشن تاريخاً جديدا
لنتصور أنه قد فازَ الحراكُ الجزائري في إعادة صياغة تعاقد سياسي واجتماعي جديد، على أسس مغايرة، قوامُها المشاركة الحقيقية، والحوار المسؤول والنزيه، وتمكَّن من تنصيب عناصر مشهود لها بالوطنية، والاستقامة، ونظافة اليد، وأعلن عن تدشين صفحة جديدة في إدارة البلاد وتسيير شؤونها.. لنتصور كم سينعكس كل هذا إيجابيا على دول الجوار، من زاوية إعادة استنهاض همم مجتمعاتها، وحَفزها على المطالبة من جديد باستعادة روح الإصلاح والتغيير في بلدانها، وتوجيهها الوجهة السليمة. والحال أن كل الشروط الداعِية إلى الاستنهاض متوفرة وجاهزة الآن.. لنُمعِن النظر في تصاعد منحنيات الاحتجاجات الاجتماعية، وحجم الاختلالات التي اخترقت مختلف قطاعات المجتمعات، والطبيعة المتوترة للعلاقة بين الدول والمجتمعات، كي نُدرك نوعية الانعكاسات التي ستكون للحراك الجزائري؛ إن تيسرت له شروط النجاح والديمومة بالنسبة لدول الجوار.
لنتصور كذلك، لو أن الحراك نجح في إرساء أسس نظام ديمقراطي، يضمن مشاركة المجتمع في تقرير مصير أبنائه، ويفتح الباب للتداول السلمي على السلطة، ويقرن المسؤولية بالمحاسبة.. كيف سيكون الفضاء المغاربي المشترك، أي المشروع المغاربي الذي ظل فريضة غريبة لعدة عقود؟ لذلك، نجاح الجزائر في حراكها السلمي، الحضاري والمتحضر، والمعبر عن الطموحات العميقة للجزائريين، سيكون نجاحا لكل المنطقة، وسيؤهل هذه الأخيرة لأن تتصالح مع ذاتها الجمعية، وتدشن تاريخاً جديدا، هو بالتأكيد تاريخ السير على طريق النماء والتقدم والمساهمة البناءة في الحضارة الإنسانية.