مرت
تونس منذ أسبوع بأحد أهم المحطات الانتخابية المتعلقة بانتخاب 350 مجلسا بلديا (بمثابة "الحكومة" المحلية) بصلاحيات جديدة غير مسبوقة. هذه الخطوة الجديدة في ترسيخ العملية الانتخابية تأسيس متجدد لمسار الانتقال الديمقراطي. غير أن الديمقراطية بما هي سيادة الشعب على مقدراته السياسية لا تعني تفعيلا شاملا لسيادته أيضا على خياراته الاقتصادية. إذ أن العملية الديمقراطية على المستوى السياسي لا تتطابق ضرورة مع اهتراء السيادة الاقتصادية.
ففي آخر هذا الشهر ستخوض الحكومة التونسية، المنتخبة ديمقراطيا بلا شك، جولة أخرى في محادثات "أليكا" أو "مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق" بين تونس والاتحاد الأوروبي، وهنا توجد عديد المؤشرات على أننا بصدد تقويض متزايد لقدرة أي سلطات منتخبة التحكم في المصير الاقتصادي للبلاد.
الموقع الرسمي للدعاية للاتفاقية والرد على أي تشكيك فيها خاصة في ما يتعلق بتقويضها للسيادة المحلية فيؤكد تحديدا على ما يلي "بالنسبة لتونس تمثل الأليكا بمثابة محرك حقيقي للإصلاحات المقررة و المخطط لها في كنف السيادة التامة" و"ترتكز الخطوط العريضة لمشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق والتي توجه المفاوضات على احترام تام لسيادة تونس بخصوص اختياراتها الاقتصادية وأولوياتها واختيار مقاربة تتماشى مع مصلحة تونس".
يتلخص الهدف من التفاوض حول مشروع "اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق" في "تعزيز" لمبدأ إنشاء شراكة مميزة تم منحها لتونس منذ نوفمبر 2012 من طرف الاتحاد الأوروبي، لتكون بذلك أداة اندماج للاقتصاد التونسي داخل السوق الداخلية الأوروبية. وحسبما يفسر الموقع الرسمي للمفاوضات: "لا يمكن الحديث عن اتفاق تجاري جديد بالمفهوم التقليدي للكلمة بل نفسح المجال للحديث عن اندماج أعمق للاقتصاد التونسي في الفضاء الاقتصادي الأورو- متوسطي."
ويواصل بان الهدف من الاتفاقية هو السعي: "إلى مزيد توسعة وإدراج قطاعات إضافية جديدة إلى منطقة التبادل الحر، إضافة إلى المنتوجات الصناعية والمعملية التي تم تحريرها بموجب اتفاق الشراكة لسنة 1995، وللإشارة فإن اتفاق 1995 أقر حذف المعاليم الجمركية على المنتوجات الصناعية فقط."
وتحدد المفاوضات المجالات التالية التي سيتم حذف المعاليم الجمركية فيها وأيضا القطاعات التي ستتوسع فيها الشراكة من باب الذكر لا الحصر: "التجارة والخدمات، وتجارة المواد الفلاحية والفلاحية المصنعة ومواد الصيد البحري، والإجراءات الصحية والصحة النباتية، وحقوق الملكية الفكرية، والجوانب التجارية المتعلقة بالطاقية."
الحرص الواضح للرد على الانتقادات يرجع إلى مناخ الحريات في تونس والذي يتيح للأحزاب السياسية والمجتمع المدني نقد الاتفاقية المزمع الإمضاء عليها، لكن فقط بعض الانتقادات مؤسسة على معطيات دقيقة وعلمية. منها مثلا كتابات رجل الأعمال والاقتصادي جمال العويديدي كمقاله الأخير الذي ذكر بأهم الإشكالات في خصوص الاتفاقية وهو قبل كل شيء غياب أي تقييم رسمي ودقيق لآثار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تعود إلى سنة 1995: "في حين أن البنك الدولي قدم دراسة في سنة 1994 نبه فيها الدولة التونسية أنها ستفقد بمقتضى هذا الاتفاق ما لا يقل عن 48 بالمائة من نسيجها الصناعي الوطني وأنه سينتج عن ذلك ارتفاع كبير لنسبة البطالة في البلاد."
العويديدي يذهب إلى خلاصات أكثر راديكالية: "يمكن التأكيد بدون منازع أن كل ما تعانيه تونس من أزمات اقتصادية و اجتماعية منذ التسعينيات إلى اليوم هي نتاج لهذا الاتفاق غير متكافئ والذي قضى على النسيج الصناعي الوطني بنسبة تفوق 55 بالمائة حسب دراسة صدرت في سنة 2012 عن البنك الدولي بتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء. مما أدى إلى فقدان 440 ألف موطن شغل مستديم وله قدرة علمية عالية كان بالإمكان أن يوفر قطب لاستيعاب العديد من أصحاب الشهادات العليا في البلاد. كما أدى هذا الاتفاق إلى فقدان أكثر من 40 مليار دينار للخزينة الوطنية التي كانت متأتية من المعاليم الديوانية التي كانت توظف على المنتوجات المستوردة من بلدان الاتحاد الأوروبي التي تمثل 80 بالمائة من قيمة وارداتنا."
لا يتوقف الأمر على ضرب الموارد الجمركية بل يتعداه للنسيج الصناعي المحلي وتهريب رؤوس الأموال: "وقد استفادت الشركات الأوروبية مباشرة بهذا التفكيك حيث رفعت في هامشها الربحي نتيجة استفرادها بالسوق التونسية ونتيجة الحماية التي أصبحت تتمتع بها داخل السوق المحلية وذلك على حساب رصيدنا من العملة الأجنبية حيث أن رفع هامش الربح يتم تسديده مباشرة بالعملة الأجنبية. كما أن هذا الاتفاق أدى إلى تعميم وتعميق تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج حيث أثبتت دراسة جدية قام بها معهد الدراسات الاقتصادية والسياسية التابع لجامعة مساسوستشس الأمريكية أن رؤوس الأموال المهربة من تونس في المدة بين 1987 و2010 تقدر بـ 33.9 مليار دولار أمريكي وقد ذكر التقرير أن وتيرة التهريب ارتفعت بعد التوقيع على اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي أي بداية من أواخر التسعينات وبداية الألفينيات."
السؤال طبعا في هذه الحالية كيف ستعمق الاليكا في هذه العلاقة البائسة مع بروكسيل. يواصل العويديدي: "إن إعلان رئيس الحكومة يوسف الشاهد بنية التوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق الذي سيفتح الباب على مصراعيه في قطاعات حساسة مثل القطاع الفلاحي و قطاع الخدمات في كل المجالات أمام بلدان تعتبر من أكبر البلدان في العالم الداعمة لقطاعها الفلاحي والتي ستخول لمواطني ومؤسسات هذه البلدان الانتصاب الحر وبدون تأشيرة في بلادنا مع حق تحويل كل المرابيح إلى بلدانهم يعتبر انتحارا لا شك فيه و ضربا للسيادة الوطنية خاصة وأن التونسيين لا يحق لهم الانتصاب في البلدان الأوروبية إلا بتأشيرة دخول."
غير أنه يمكن أن نتراهن أن أيا من هذه القضايا المصيرية سيكون في صدارة الجدال الإعلامي. سنجد كالعادة وفقط جدالا حول "قانون المساواة في الإرث"، وهل من المناسب تولية امرأة منصب "شيخ مدينة تونس" (رئيس البلدية)، وهل يمكن اعتبار غناء المرأة عورة، وكل القضايا الهووية التي يمكن إشغال التونسيين بها بعيدا عن انتقال السيادة الاقتصادية المطرد نحو مواقع قرار خارجية، بما يجعل الديمقراطية الانتخابية بلا مضمون تحرري أو إنساني.