أكتب هذه الكلمات وسط حالة الارتباك
الإسرائيلية الواضحة حول "اجتياح بري" لغزة، بين تأكيد أول ثم تراجع والحديث عن "مشكلة تواصل داخلي".
نحن إزاء وضع لا يستسهل فيه الإسرائيليون إطلاق دباباتهم إلى الأراضي التي تسيطر عليها
المقاومة الشعبية
الفلسطينية.. نحن بعيدون جدا عن الزمن الذي يسيل فيه لعاب الآلة الحديدية التدميرية الإسرائيلية لمحق الفلسطيني واستعراض القوة المسلحة، و"تلقين الدروس" والاستمتاع بمشاهد المجازر. في المقابل، رشقات صواريخ المقاومة الشعبية أصبحت تغطي كافة مواقع الاحتلال، كل "الأماكن الآمنة"، ويتم رشقها حسب الموعد المحدد وبالدقة المطلوبة، والأهم أنها تنفذ عبر ثغرات "القبة الحديدية"، لتتحدى الغرور التكنولوجي الإسرائيلي. نحن إزاء ترسانة صواريخ حقيقية، بالمئات وربما بالآلاف، قادرة على إصابة العمق السكاني الإسرائيلي.
كان على العراق (صدام حسين) صاحب الثروة النفطية الباذخة والمخزون المسلح الكبير والجيش العرمرم أن يخوض تحديا وجوديا حتى أمكن له أن يطلق أربعين صاروخا بقيت بمثابة الأسطورة. فقط بهذا القياس يمكن أن نفهم ضخامة ما يحدث.
المرحلة التاريخية التي نحن بصددها هي مرحلة "توازن الرعب"، وهي ليست مرحلة نهائية في الصراع، لكنها، وبعكس ما تحيل عليه حالة الإحباط العربي العام، مرحلة متقدمة كثيرا عن الوضع في الستينات مثلا، مرحلة مؤتمرات "اللاءات الثلاث"
سأحاول الابتعاد عن التقدير الروتيني والنشوة المبالغ فيها، ولا تزال العمليات العسكرية متواصلة، لنسعى للنظر إلى ما يحدث من زاوية التاريخ طويل الأمد، ففي النهاية لن يحسم أي طرف الصراع في هذه الموقعة. في المقابل نعلم جيدا أن التحولات الكبرى لا تحدث عموما تحت عنوان "الخبر العاجل"، هي تحدث بتراكم أحداث صغيرة لكن تبقى مهمة لأنها تمثل تشكلا تدريجيا لمنعرجات لا تُرى بمرأى العين. لنقل إن المرحلة التاريخية التي نحن بصددها هي مرحلة "
توازن الرعب"، وهي ليست مرحلة نهائية في الصراع، لكنها، وبعكس ما تحيل عليه حالة الإحباط العربي العام، مرحلة متقدمة كثيرا عن الوضع في الستينات مثلا، مرحلة مؤتمرات "اللاءات الثلاث".
بمعنى آخر، نعم موجة "التطبيع" لبعض النظام العربي الرسمي مثيرة للحنق، لكن آليات الصراع بصدد التغير بشكل حاسم بعد مرحلة طويلة من التحول، إذ لم يعد للأنظمة العربية ذات الوزن السابق دور في تحديد المسار التاريخي للصراع مع إسرائيل. أصبح الصراع يتحدد بقوى مقاومة شعبية فلسطينية، وحزام شعبي عربي واسع. وهذه القوى بصدد التعمق في تجريب منهجية يمكن أن نقول إنها انطلقت بشكل فعال منذ النزال بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل في جنوب لبنان، لتقدم نموذجا للقوى الفلسطينية.
نحن هنا أساسا بصدد استكمال قطيعة استغرقت وقتا طويلا بين منهجية الأنظمة في إحداث "توازن استراتيجي" قائم على مخزون السلاح وخوض حرب نظامية "حاسمة"، ومنهجية أخرى لقوى مقاومة منغرسة شعبيا في سياقها المحلي تخوض حرب عصابات وتحقق انتصارات صغيرة؛ تتمثل أساسا في فرض واقع استمرارها وبقائها مع عجز الآلة الإسرائيلية على محقها من الوجود. القوى الفلسطينية جربت هذه المنهجية خارج سياقها الفلسطيني لكنها تورطت في حروب جانبية أنهكتها: الصراع من أجل الإطاحة بالنظام الأردني بداية السبعينات، ثم الحرب الأهلية اللبنانية.
نحن هنا أساسا بصدد استكمال قطيعة استغرقت وقتا طويلا بين منهجية الأنظمة في إحداث "توازن استراتيجي" قائم على مخزون السلاح وخوض حرب نظامية "حاسمة"، ومنهجية أخرى لقوى مقاومة منغرسة شعبيا في سياقها المحلي تخوض حرب عصابات وتحقق انتصارات
أكبر نقاط قوة هذه المنهجية أن مجال المقاومة ليس دولة مكتملة الأركان تحتاج لتحصين النفس والخضوع للالتزامات والأعراف والانضباط لمعايير العلاقات الدولية.. مجال المقاومة في
غزة محاصر منذ سنوات طويلة ويعيش تقريبا كمجال متمرد على قواعد اللعبة، و"جيشه" مقاومة شعبية قيادة أركانها تنظيم سري لا نعرف منه سوى الكنيات والقصص الأسطورية لبقائها رغم محاولات الاغتيال.
المقاومة ليست مرتهنة لقواعد الحرب النظامية والحاجة للتوازن الاستراتيجي، لكن هي أيضا لا تمارس حرب العصابات التقليدية.. تمارس مبدأ "اضرب واهرب"، والعمل في صيغ التخفي والسرية، والالتحام بمحيط شعبي، لكن أيضا تستعمل أسلحة استراتيجية إما أتت تهريبا أو تم تصنيعها محليا عبر "صناعة عسكرية" يمكن القول دون مبالغة إنها أكثر اقتدارا من "صناعات عسكرية" لدول قائمة الذات.
عجز استراتيجي إزاء المقاومة الشعبية، وهذا انتصار بمقاييس التفاوت النسبي للقوة، وقدرة المقاومة على الاستمرار أكثر في مثل هذا التوازن. في المقابل في العمق العربي لإسرائيل، حيث أن خمس الديمغرافيا عرب 48، نحن إزاء تحولات أساسية
أتذكر دائما تقريرا لمنظمة "راند" الأمريكية صدر سنة 2017 حول "دروس من حروب إسرائيل في غزة"، يلخص إلى حد كبير طبيعة الصراع بين إسرائيل وحماس: "إن التعامل مع حماس في غزة يضع إسرائيل في مأزق استراتيجي: حيث ينبغي عليها فرض القوة الكافية لردع حماس للتوقف عن الهجمات، لكن عليها كذلك ألا تستخدم القوة المفرطة التي تؤدي إلى الإطاحة بالنظام". وقد عبر عن ذلك محلل إسرائيلي تابع لوزارة الدفاع قائلاً: "نرغب في تكسير عظامهم دون سحقهم نهائيا". يضيف التقرير أيضا: "وبذلك أصبحت استراتيجية إسرائيل الكبرى تتمحور حول "جز العشب"، أي قبول عجز قوات الدفاع الإسرائيلية عن تسوية المشكلة بشكل نهائي، والاعتماد بدلاً من ذلك على الاستهداف الدائم لقادة المنظمات العسكرية الفلسطينية للحيلولة دون خروج العنف عن نطاق السيطرة".
الملخص هو عجز استراتيجي إزاء المقاومة الشعبية، وهذا انتصار بمقاييس التفاوت النسبي للقوة، وقدرة المقاومة على الاستمرار أكثر في مثل هذا التوازن. في المقابل في العمق العربي لإسرائيل، حيث أن خمس الديمغرافيا عرب 48، نحن إزاء تحولات أساسية. ميدانيا، جرأة أكبر على تحدي قواعد اللعبة وخلق حالة ضغط واحتقان في عدد من المدن (منها اللد، كيلومترات قليلة من تل أبيب) تمنع حياة عادية بل تجعل مسؤولين إسرائيليين يتحدثون عن "حرب أهلية"، وتدفع نتنياهو للتفكير جديا في إرسال الجيش للسيطرة على هذه المدن. سياسيا، "قوة عربية مستقلة" عن "اليمين واليسار" أصبحت تحدد مصير الحكومة في الكنيست لأول مرة في تاريخ محاولة إدماج من تبقى من العرب لتجميل "الديمقراطية الإسرائيلية". بمعنى آخر، نحن إزاء حالة مفارقة حيث ينقلب فيه السحر على الساحر.
بما هي ديمقراطية تحت مراقبة الرأي الحر الشعبي، لا تستطيع تونس إلا أن تتماهى مع الشعور العام بدعم المقاومة
تونسيا، بعد اتصاله بمحمود عباس، اتصل الرئيس قيس سعيد برئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. نص البلاغ يتحدث عن أن "تونس لن تدخر جهدا للوقوف إلى جانب الأشقاء الفلسطينيين لاسترجاع حقهم المسلوب، والذي لا يمكن أن يكون موضوع صفقات أو أن يسقط بالتقادم مهما اشتدّ الظلم والعدوان"، وأن "أكبر خطر يتهدد الحق الفلسطيني هو ثقافة الهزيمة والاستسلام". الاتصال تم عشية إطلاق قوى المقاومة الفلسطينية عشرات الصواريخ تجاه تل أبيب. للتذكير، قيس سعيد هو الرئيس التونسي الثاني بعد المنصف المرزوقي الذي اتصل بقيادة المقاومة المحاصرة والمنبوذة في المعطى الدولي الرسمي.
النظام العربي الرسمي القديم يتهافت نحو التطبيع، وتونس بما هي الطليعة الديمقراطية في واقع عربي لا يزال مكبلا بتعفن القديم، تعطي مثلا على الجمع بين بناء الديمقراطية وتحدي العبء الاقتصادي والتبعية المالية (وهي تخوض مفاوضات صندوق النقد)، لكن أيضا وبما هي ديمقراطية تحت مراقبة الرأي الحر الشعبي، لا تستطيع إلا أن تتماهى مع الشعور العام بدعم المقاومة.
twitter.com/t_kahlaoui