اتجاه
المحاور الإقليمية في مسار مصالحات يتأكد أسبوعا بعد أسبوع. نحن لسنا ازاء مصادفات أو حالات استثنائية، نحن إزاء قاعدة عامة بصدد التحقق بشكل منسجم سميتها تجاوزا "اختلاط المحاور". هنا في سياق التعميق ليس المقصود أن المحاور والتحالفات بصدد الانقلاب، حيث يصبح
الإيراني مع السعودي مثلا ضد السوري، أو التركي مع المصري ضد القطري، المسألة تعني أن الخنادق الفاصلة بين المحاور لم تعد عميقة، فاضت مياهها، وأصبح من الصعب تمييز الحدود الفاصلة.
في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية هناك مبدأ أساسي يسمح بالحفاظ على توازنات تقيم سلما ولو مؤقتا، خاصة بعد حروب طويلة وعقيمة لا تسمح بحسم أي طرف (counterbalancing).
هانس مورغنثاو، المنظّر الأساسي للمدرسة الواقعية الأمريكية خلال
الحرب الباردة، كان دائما يذكر الأمريكيين بأن شعارهم الأثير "الله معنا" لا يمكن تصريفه في العلاقات الدولية، وأن قرارات الحروب لا تخضع للإحساس بالفوقية والاستعلاء الأخلاقوي بل تستند إلى الجدوى منها. ولأنه لا توجد حرب مفيدة في المطلق، حيث كل حرب هي بالأساس مدخل لنسبة ما من الخسائر المباشرة، فإن قرار الحرب يجب أن يخضع لحساب عسير يقلل المخاطر ويجعله "أبغض الحلال". لهذا مثلا كان مورغنثاو ضد الحرب الأمريكية على فيتنام.. كان حسابيا يرى فيها بلا أهمية فارقة في التوازن مع موسكو، وأن مضارها أكثر من منافعها بالنسبة للمنطق الإمبراطوري الأمريكي، وفهم خصومه فيما بعد أنه كان على حق.
لن أقول أن عواصم الإقليم المختلفة تحسب حساباتها جيدا، وأنها تعتمد مرجعيات واضحة في تقرير سياساتها الخارجية. هناك في العلاقات الدولية نسبة معتبرة، خاصة في الأنظمة الاستبدادية لدور الأفراد وأمزجتهم المتقلبة في قرارات الحروب. في حالات محددة يصبح هذا العامل تحديدا شديد الأهمية، فلا يمكن مثلا أن ندخل في اعتبارات تقدير الموقف في
السعودية واتجاهاتها أننا إزاء "عقل بارد" يحدده جيل تركي وبندر، نحن إزاء "طيش" سلمان. نعم الوقائع والتجارب تقلم الأظافر وتحفر ندوبا وتعيد تشكيل الملامح، لكن هناك مكونا أصليا لا يمكن أن يمحى تماما.
دعنا نقول رغم ذلك إن هناك مستوى تحليليا يتعلق بحد أدنى من "العقل البارد" أو "غريزة البقاء" التي فصل فيها توماس هوبز. الطبيعة البشرية الفطرية التواقة للعنف وفقا لهذه الزاوية يمكن أن تفهم أيضا أن هناك حدودا للعنف في زمن ووقت محددين، وأنه حان الوقت للتراجع. لحظات الوعي بان موازين القوى لم تعد تسمح بالحسم العنيف يسبقها تراكم من الخيبات المتبادلة والتي يتشارك فيها بهذا القدر أو ذاك مختلف المحاور. لهذا من الطريف أن نشاهد كيف يحاول أنصار المحاور الذين تعودوا، وبعضهم ربما أدمن، الصراع الدعائي يحاولون أن يقتنصوا أي عنصر في رسائل الغزل المتبادلة للتدليل على أن الصراع حسم لزعيمهم على حساب الآخر، في حين ما يصلح واقعيا هو أن "الزعماء" فهموا أن استمرار الصراع و"الحرب الباردة" الحالية وحروب الوكالة الدموية لا تؤتي بثمار كافية، إضافة إلى تغير موازين العلاقات الدولية والتباعد المتوقع بين واشنطن وموسكو مثلا، وتوقع عودة واشنطن للعب دور مباشر عوض سياسة ترامب التي "هربت" من المنطقة.
ما يهمنا هو تحديد المضامين الاستراتيجية لأسس هذه المحاور، وهل يمكن أن تتغير هيكليا وتسمح بانقلاب المحاور؟ لنتفق على أن اسس الصراع الهيكلية تتعلق في جزء منها على الاقل بالتركيبة الجينية لهذه لأقطاب المحاور. هل يمكن أن تتخلى إيران عن مكونها الطائفي الشيعي في قلب مشروعها الاستراتيجي؟ وهل يمكن أن تفعل السعودية ذات الشيء؟ لا طبعا. وبهذا المعنى، وباستمرار النظامين كما هما، نحن إزاء صراع مستديم، والآن فقط الإجهاد والنزيف المالي والسياسي والاستراتيجي هو الذي فرض عليهما "فسحة المحاربِ". بهذا المعنى اختلاط المحاور لا يعني انقلاب المحاور بمعنى انتفاء الصراع بينها.
يبقى أن هناك نقطة أساسية هنا؛ ليس من المكونات الهيكلية في تركيبة أقطاب المحاور هذه مضمونا سياسيا مبدئيا. بمعنى آخر، وهنا النقطة التي تهمني تحديدا، ورقة الإسلام السياسي هي هامة فقط أن بقية تعبر عن أطراف وازنة. وهنا الاهتراء الواقعي في شعبية الإسلامي السياسي بسبب عبء الحكم (تونس والمغرب وليبيا) أو بسبب التعرض للقمع الدموي بعد عدم القدرة على ابتلاع السلطة (مصر) سيؤدي ضرورة، حتى لأنظمة تعبر عن مضمون سياسي إسلامي (تركيا)، إلى تراجع أهمية هذه الورقة. أقول تراجع أهميتها وليس انتهاء صلاحيتها طبعا.
twitter.com/t_kahlaoui