نحاول
استشراف المشهد الانتخابي
والسياسي قبل أربعة أيام من الصمت الانتخابي في
انتخابات تونس البلدية الأولى بعد
الثورة، بعيدا عن كل رغبة في التأثير على النتائج، رغم أن مؤشر المقاطعة مرتفع
لأسباب كثيرة، منها حملة التثبيط الإعلامي المشبوهة التي تشنها قنوات معادية لكل
حركة التغيير السلمي في تونس، وهي حملة ممنهجة حفرت أخدودا كبيرا بين الطبقة
السياسية والناس، ومنها وعي كبير بأن البلديات في الظرف الاقتصادي الراهن ستكون
بلا موارد كبيرة كفيلة ببدء تغيير حقيقي في العمق، رغم المصادقة على مجلة الجماعات
المحلية، والتي ستطلق نظريا أجنحة البلديات لتشتغل على المحلي بقوة موارده الذاتية.
السائد الآن قبل التصويت هو
خطابات التخويف من
النهضة التي ستكتسح كل البلديات، وكتبت أسماء ذات وزن مذكرة
بالحالة الجزائرية حين اكتسحت جبهة الإنقاذ التشريعيات؛ ما أدى إلى انقلاب عسكري
فتح على حرب أهلية، وفناء ربع مليون روح بشرية لإلغاء النتائج والعودة إلى مربع
الحكم العضوض.
أتوقع أن النداء في موقع مريح رغم فشله في الحكم
لقد كنا نسمع من مصادر ثقة
أن حزب النداء ظل مترددا في السماح بإنجاز الانتخابات، وكانت تظهر علامات كثيرة
للتشويش عن الاستحقاق، وربما إحداث فوضى كبيرة لمنع حدوثه، ولكن استطلاع الرأي
الذي أنجزه الحزب قبل العشرين من نيسان/ أبريل منحه ثقة جعلته يدخل بقوة السباق
الانتخابي، مما يجعله في موقع مريح يمكن أن يكتسح به البلديات الكبرى، خاصة حيث
التصويت لا يزال حضريا رافضا لما يسمونه بترييف المدينة، وهي عبارة تطلق على غزو
أشكال الحياة الريفية للوسط الحضري التقليدي، لكن جوهرها هو اكتساح الريفيين
لمواقع القرار، وهو أمر مرفوض بعد في لا وعي الحضر وفي وعييهم أيضا.
ورغم أن حزب النداء، منذ
الإعلان عن وجوده سنة 2012، لم ينجز مؤتمره الأول ولم يقدم قيادات دائمة، بل هو في
وضع المؤقت حتى الآن، إلا أنه خاض الانتخابات الرئاسية والتشريعية وفاز بالأغلبية
التي أهلته لتملك الرئاسات الثلاث (رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة).
وليس للحزب مقرات في أغلب المدن والبلدات، فمنخرطوه لا يتكفلون حتى بخلاص معاليم
الأكرية، ولا يعقد اجتماعات علنية، ورغم ذلك أراه سيكتسح، فكيف ذلك؟
النداء يشتغل كما اشتغل
التجمع، ولم يطور وسائله السياسية، وشبكة العلاقات الزبونية القديمة لم تنكسر ولم
تخسر مكاسبها، وليس مثل البلديات من يسمح لها بمواصلة الكسب من لحم الدولة
والمجتمع. إن أهداف الفرد التجمعي واضحة ومباشرة.. إنه يضع مصلحته الفردية قبل كل
مصلحة، وسيتخذ لها سبلا من الحيلة إذا منعه القانون، وليس مثل شبكة الفساد القديمة
من يضمن له مصلحته لذلك، فهو لم يحتج إلى مقر حزبي ليعبر عن ذلك، أو يطرح أفكارا
جديدة لتونس ما بعد الثورة (خلافا لما دأب عليه من الإفراط في الوعود غير القابلة
للتنفيذ). يكفي أن يحل الموعد، وهو يعرف طريق الصندوق وسيصوت لمصلحته.
قوة صامتة تتحدث في المقاهي
وتنسق بالهاتف، ولا تنفق ما تنفق النهضة وبقية
الأحزاب، لكنها تفوز. كان هذا واضحا
في 2014، وسيتضح أكثر في 2018. ولن يتغير الحال في 2019.
كل الصراخ على حزب النهضة إلا أنه سيحل ثانيا
إن اصطناع الغول تبرير جيد
لعدم مواجهة الخوف الذاتي، وهذه حالة مثالية لأحزاب اليسار أمام النهضة. لكن هل
النهضة قوية فعلا لتكتسح؟ الجهات التي تصدر إعلانات الرعب من تقدم النهضة هي أول
الخاسرين يوم 6 أيار/ مايو. لن تكون هناك بلديات يسارية أو قومية، لا لأن النهضة
قوية، بل لأن هؤلاء لم يستعدوا مقارنة بما فعلته النهضة، فبقوا غرباء عن الشارع
وأضعف من أن يقنعوه بشيء. ولذلك، فإن خطاب الترهيب من انتصار النهضة لا يقرأ كقوة
للنهضة بل كضعف منافسيها من اليسار والقوميين خاصة.. خاصة إذا اقترن بالافتراء على
النهضة كبرنامج انتخابي.
لقد قام حزب النهضة أولا
بمجهود جبار استعدادا لهذا الاستحقاق الانتخابي، والذي يعتبره مصيريا ومحددا في مآلات
الحكم لما بعد 2018. وقد درب ماكينته الانتخابية تدريبا عصريا يقارن بماكينات
أحزاب أوربية كبرى، ربما يكون قد نسج على منوالها بعد التعلم من تجربة التهجير القسري.
ولذلك لم يرتعب الحزب عندما قررت الهيئة الانتخابية إلغاء الحبر الانتخابي، فللحزب
مراقبون في كل مكتب؛ لا يمكن التزييف أمام أبصارهم.
وثانيا، قام الحزب بفتح قوائمه
الانتخابية لغير منخرطي الحزب ممن يسمون في تونس بالمستقلين، ورشح بذكاء انتخابي
خاص ومدروس، ونعتقد أنه ستكون له نتائج.
المستقلون المستقطبون
اختراق حقيقي في الكتلة الصامتة أو التي صمتت عن التصويت في 2014، وهو اختراق في
كتلة النخب المتعلمة والمترددة أمام خطاب التخويف من النهضة. وقد عمل الحزب على
ذلك فحقق الهدفين حتى الآن (في انتظار النتائج).
أما على مستوى ذكاء الترشيح،
فقد قدم الحزب نساء من خارج الحزب في دوائر كان التصويت فيها نسائيا، وهي دوائر
حضرية منذ قرنين.. بلدية تونس وباردو والمرسى وسيدي بوسعيد الصغيرة؛ في حجمها وذات
الرمزية العالية لحضر تونس ممن ينظر بعد باستغراب ونفور لوجه امرأة متحجبة.
كل هذه العناصر مجتمعة تؤهل
الحزب لموقع كبير في البلديات وهي كما نرى من صناعة الحزب ولم تهد إليه من أحد. وهل
كان على الحزب أن لا يفعل لكي يطمئن الكسالى والعاجزين عن التواصل مع الناس؟ لكن
أليست النهضة خائفة من الاكتساح وأن يصيب تونس جراء ذلك ما كان أصاب الجزائر؟
رغم أن الوضع مختلف الآن
عما كانت عليه الجزائر سنة 1990، وأن الاستحقاق البلدي ليس في قيمة التشريعي، إلا
أننا سمعنا خطابات تهدئة من النهضة، وعلامات تواضع ترجمتها القوائم الخجولة في بعض
مراكز المدن، كأنما يتخلى الحزب عامدا عن بعض المواقع لشريكه في الحكم حزب النداء
(التجمع المرسكل). لذلك لن يكون الأول.. لقد استفاد سياسيا من الموقع الثاني في
حكومات ما بعد 2014، وهو ما زال يحتاج إلى تقية تجنبه مواجهة ميراث ثقيل في
البلديات. ربما أقول ربما سنكتشف صفقة عقدت بين الباجي والغنوشي، قبِل بمقتضاها
الباجي بتسهيل إجراء الانتخابات، على أن يكون هو الفائز بأغلبيتها.
فالهم عند
الغنوشي (النهضة) أن تتم الانتخابات وتدور عجلة الانتخاب مرة أخرى، فهو يشتغل على
المدى الطويل.
بقية الأحزاب ستنال بعض الفتات
لن يكون المشهد النهائي بعد
6 أيار/ مايو مكونا من حزبين يتقاسمان البلديات.. سيكون هناك تصويت عقابي ضد
النداء والنهضة، اجتمعا أو اختلفا. قانون أكبر البقايا سيمكن كثيرا من مرشحي الأحزاب
الصغرى، مثل التيار والحراك، من الفوز بمقاعد، لكن لن تكون لهم أغلبية في أية
بلدية ترشحوا لها مع الحزبين الكبيرين. لقد آثرت الأحزاب الصغرى مرة أخرى عدم
التنسيق في ما بينها في توليف قوائمها، وتقدمت متفرقة، وسيفوّت عليها هذا أن تعمل
بأريحية وتبرز بمقترحاتها المختلفة.
يتحدث البعض من المخوفين عن
اكتساح حزب الحراك لبلديات الجنوب، وهذا حديث يستهدف شخص الرئيس المرزوقي (رئيس
حزب الحراك) خوفا منه كمرشح محتمل للرئاسيات في 2019، ولكن بلدات الجنوب ليست على
هوى حراكي كلها، والتصويت العقابي لن يحرم النهضة من رصيدها الجنوبي المحافظ، وهو
رصيد ثابت.
بعض القوائم المستقلة بها
أسماء مرشحين ذوي مصداقية، ولهم سمعة علمية وإدارية جديرة بالتقدير، ونرجح أنه لن
تسقط كلها إذا فاقت نسبة المشاركة 50 في المئة. فالشك يحوم بعد حول السلوك
الانتخابي، فالغضب من أداء الحكومة (أي حزبي النداء والنهضة) كبير، ونرجح أنه
سيكون لذلك تأثير على الإقبال، وهناك الآن أصوات عالية تدعو إلى المقاطعة. في صورة
المقاطعة الواسعة، سيذهب أنصار الحزبين فقط للصندوق، وستسقط أسماء مستقلة كثيرة
تراهن على الأصوات المستقلة من خارج الرصيد الانتخابي للنداء والنهضة.
كل فائز من خارج الحزبين
سيكون له دور معارضة من داخل المجالس البلدية، ولكن القرار بالأغلبية سينتهي دوما
للحزبين. فكيف سيجري الأمر ببلديات منتخبة انتظرها الناس منذ سبع سنوات؟ ننتظر
ونرى، فمجلة الجماعات المحلية تعد بتغيير وجه السلطة في تونس، ولكن من المبكر
رؤيتها تدخل حيز التنفيذ.