في
تونس الثورة يمكنني أن أعلن كفري بالله دون أن أخشى حسابا دنيويا، لكن لا يمكنني أن أنقد الاتحاد العام التونسي للشغل. إن ذلك يشكل جريمة تحرم المرء من تلقي تحية الصباح في مقر عمله. وفي أجواء من الديمقراطية التونسية الناشئة نحن نعبث بشخص الرئيس وبرئيس الحكومة وزعماء الأحزاب، ولكن المساس بشخصيات النقابة يعتبر تطاولا على ذات إلهية معصومة. أقل جملة معاتبة للنقابة أو أحد رموزها تعني أن يتلقى المرء على رأسه تهما بالخيانة والعمالة وإهانة الإله المبجل، فرحت حشاد.
توجد في تونس سرديتان كاذبتان حتما: سردية أطفال بورقيبة التي تقوم على أن بورقيبة حرر الوطن وبنى الدولة، فهو بالتالي في سدة من المجد لا يجوز نقده أو مراجعة أفعاله، وسردية ثانية هي أن
اتحاد الشغل حرر البلد وبنى الدولة الاجتماعية وحما العمال والفقراء وحرر فلسطين أيضا وكل مراجعة لهذه السردية تعني أن المرء خائن للوطن وللامة العربية وليس مراجعا لتاريخ النقابة.
أنا مواطن تونسي حتى الآن، أملك كل الوثائق القانونية لإثبات ذلك، ولكني رغم ذلك كافر بالسرديتين. وهذه الورقة لإعلان كفري بالاتحاد، أكبر خدعة في البلاد.
اصطناع التاريخ
كان لبورقيبة مؤرخون يعملون بالريموت كونترول، لذلك لما تمكن من السلطة أمرهم بإعادة صناعة تاريخ خاص به (على غرار أفلام السفر في الزمن)، فقاموا بالمهمة أحسن قيام، فمحوا كل تاريخ النضال الوطني السابق لبورقيبة والمزامن له، وخاصة تاريخ المقاومة المسلحة، بل قاموا بتشويه المقاومين تحت مسمى الفلاقة (أي الخارجين عن القانون)، وقدموهم كعصابات من النهّابة. ولولا حكمة الزعيم الذي نزع أسلحتهم قبل نهاية المعركة، لعاثوا في البلاد فسادا.
وعلى غرار الاصطناع البورقيبي للتاريخ، قام آخرون باصطناع تاريخ آخر للنقابة بعضه رد على سردية بورقيبة وبعضه أيديولوجيا يمهدون بها لتملك النقابة بعد أن اصطنعوا لها تاريخا وخاصة منذ بداية السبعينات، أي منذ سيطرة فصائل اليسار المتطرف على هياكل النقابة الصفراء. أكاذيب جبارة (بورقيبية) تجابه بأكاذيب مماثلة (يسارية)، ونحن الآن ضحية السرديتين، فلا باني الدولة بناها ولا حامي العمال حماهم. ووقائع التاريخ اليومي تثبت لمن يريد أن السرديتين زيف مطلق، وإنما يستطيب الناس ترديدهما خوفا وطمعا. الخوف والطمع هما محرك الأزمة القائمة الآن بين النقابة والحكومة.. كلاهما يرث سردية مطلقة تجعل موقفه يتصلب ويعاند، رغم أن النتيجة الحتمية تعصف بهما عصفا، وذلك هو الخير الوحيد في معركة الكذبة الفضيحة المطلقة التي تؤدي إلى التحرر من الصور المزيفة.
عشت زمن النقابة الفاسدة
يمكن للجميع أن يكذب، لكني كنت شاهدا. زمن
ابن علي خاصة تقول النقابة إنها حارس القطاع العام، لكن الخصخصة كانت تجري بموافقتها وإمضاء قياداتها. في عهد النقابة بيعت معامل الإسمنت مثلا، وهي صناعة وطنية ثقيلة تتحكم في سياسة البناء وتملك المسكن، خاصة للفائت الدنيا.في عهد النقابة تم التفويت في أهم الشركات الوطنية وبموافقة كاملة من النقابة، بل بتسهيل منها في بعض الأحيان. كانت قيادات النقابة تقبض مقاسم أرض في أحياء راقية أو منحا دراسية لأبنائها في كليات الطب دون مجموع كاف. وكان الخطاب يرتفع عاليا بحماية النقابة للقطاع العام.
وكان هناك ثمن آخر غير الرشى والإكراميات لقد قبضت النقابة اليسارية ما تريد. لقد صفى لها ابن علي خصمها اللدود (الخوانجية)، فرتعت هي بصفتها نقابة تقدمية تمر من الأصفر إلى الأحمر في مراعي الحرية والتقدمية. وزاد في سردية النقابة فصل مهم، هو أنها حارس النمط المجتمعي التقدمي الحداثي من الرجعية والظلامية.
لقد صار للنقابة مشروع ثقافي بعد أن تبنت مشروع تحرير فلسطين، كل فلسطين، والعراق وبعض الأهواز، إذ عقدت النقابة اجتماعا في الجنوب، حيث توجد شبيبة قومية الهوى. وكان كل ذلك يسمح للنقابة بغض الطرف عن تفكيك القطاع العام، وعن التفاوت الجهوي المنتج للبطالة، وعن ثلاثين ألف إسلامي تعفنوا بين المنافي والسجون؛ لم يرتقوا عند النقابة إلى مستوى بيان رفع عتب عن مظلمتهم طيلة ربع القرن الذي حكم فيه ابن علي.
أستطيع العيش بدون نقابة
يبدو أن هذا ممكن فعلا، وأن الانخراط في النقابة ليس قدرا منزلا، وخاصة نقابة الكذبة التونسيين القائلين بالدفاع عن القطاع العام وعن المدرسة العمومية وعن إصلاح التعليم، كما أمكن لنا العيش خارج سردية الزعيم الأوحد الذي مسك السماء عن تقع فوق رؤوسنا فلما مات تبين أن السماء مرفوعة بغير عمده.
يخفى شعار الدفاع عن القطاع العام حقيقة فاجعة؛ هي أن النقابة ومنذ عقود لا تحقق أي اختراق في المؤسسات الاقتصادية الخاصة، فأغلب العمال غير ممثلين نقابيا، ونسمع أخبارا كثيرة عن رؤساء عمل يمنعون تشكيل
النقابات، كما نسمع أخبارا أكثر عن نقابيين يقاولون مع صاحب المؤسسة على حساب العمال. فلا يحتج أحد، ولا يطالب بحق مهما صغر.
بقي للنقابة مورد رزق واحد لشراء السيارات الفارهة وصرف رواتب قياداتها العالية جدا. هي مساهمة موظفي القطاع العام التي تقتطع من المصدر وتحولها لهم الحكومات، خشية أو رشوة طبعا. أعتقد أن هذا البلد هو الوحيد الذي تقوم فيه الحكومات باستخلاص معاليم الانخراط في النقابات وتحولها إلى النقابة. هذا هو سر دفاعها عن القطاع العام.. إنها تدافع عن مصدر رزقها.
هل يعني هذا أن نعيش بلا نقابات؟ لا، إنما يمكن أن نعيش بلا نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل؛ أكبر كذبة في البلاد.
النقابة التي تحتج بإغلاق المشافي في وجه المرضى حتى يقبض الأطباء علاوات في الرواتب، والنقابة التي توقف القطارات وتعطل حركة المدينة لأن نقابيا يتعرض لمحاكمة حق عام (على جريمة ارتكبها)، والنقابة التي تغلق المدرسة حتى يقبض إطار التدريس زيادات في الرواتب والمنح.. ليست نقابة بل عصابة مستقوية على الدولة والمجتمع، وترسخ تقاليد عمل العصابات لنيل مبتغاها.
هذه لم تعد نقابة، ووجب الخروج منها وتجاوزها بحفظ حق العمل النقابي عبر تكوين نقابات أخرى خارج سردية النقابة التي حررت البلد وفلسطين والعراق، وتقف الآن مع شبيحة بشار؛ تذبح الشعب السوري بمتعة فائقة.
حتى اللحظة أنا أتنفس بسلاسة، ويبدو أن الأكسجين ليس ملك النقابة. وسأذهب إلى عملي مطمئنا، فقد تبين لي أن عدم تبادل التحية مع نقابيين فاسدين يحسن المزاج. سيكرر علي النقابي الفاسد سؤاله العبقري: أين كنت وقت ابن علي؟ وسأكرر له الإجابة نفسها: لقد كنت واقفا خلف النقابيين الأفذاذ، وكنت أراهم ينزلون سراويلهم لابن علي لتستمر الكذبة الكبرى.