يمثل
الحوار العربي الأوروبي عنوانا لمسار واسع يشمل سلسة من المبادرات بعضها رسمي، وبعضها الآخر تتولى إدارته مؤسسات المجتمع المدني التابعة لهذا الطرف أو ذاك. كان آخرها المؤتمر الذي عقد بالسويد من 1 إلى 4 أيار/ مايو في مدينة "سكدونا" بالسويد، بالتنسيق بين جمعية الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية بمصر، وبين الكنيسة السويدية بنفس المدينة. وكانت محاور الاهتمام هي: الجندرة والميديا والدين وعلاقة ذلك بالمجتمع والديمقراطية.
كان لقاء إيجابيا، لكنه لم يتوقف كثيرا عند العقبات التي لا تزال تقف في طريق هذا الحوار؛ لأن المسألة تتعلق بعوامل عديدة يصعب التحكم فيها أو حسمها بسهولة. إذ لا يزال هذا الحوار مسكونا بالهواجس والمخاوف، ولم يتحول إلى اختيار استراتيجي يتجاوز الحسابات التكتيكية والظرفية. يجب عدم الاستهانة بالتحديات والعقبات القائمة، كما يجب وضع الحوار في سياقه الراهن والتاريخي حتى يدرك الجميع صعوبة المهمة، وهو سياق مضطرب ومعقد، مما جعل الحوار العربي الأوروبي هشا يشبه قصور الرمال التي تبنى على شاطئ البحر، ثم تأتي أمواج البحر فتنسفها، وتعيد طرفي الحوار إلى الخلف بسبب أحداث سياسية أو ثقافية؛ تظهر فجأة فتغير الأولويات وتنحرف بالعلاقة بين ضفتي المتوسط في اتجاه التصادم أو الشكوك المتبادلة، وهو ما جعل هذا الحوار يفتقر للصلابة والاستمرارية. والأسباب عديدة، من أهمها:
- لا تزال جروح الماضي حية في الأعماق، ومؤثرة بشكل واضح في الذاكرة الجماعية. جروح يعود بعضها إلى الحروب الصليبية، وأخرى مفتوحة منذ مرحلة الاستعمار المباشر.
- يشكل البعد الديني أحد الفرامل القوية والنشيطة لدى الطرفين، حيث يتدخل الدين في بناء الافكار والمواقف والثقافة لدى الجميع، رغم تقدم العلمانيات
الغربية في تنظيم المجتمع وبناء الثقافة.
- ضعف القدرة على القبول بالتعدد الثقافي، سواء داخل الوسط الأوروبي أو بالخصوص في
العالم العربي الذي يشهد حاليا توترات طائفية خطيرة، إذ توجد صعوبة لدى الكثير من المواطنين في احترام خصوصيات الآخرين المختلفين عنهم. كما تشهد حاليا جماعات أقصى اليمين صعودا مخيفا في ضفتي المتوسط، مع اختلاف درجة العنف واتفاق حول رفض التعايش مع الآخر.
- لا يزال العالم العربي عرضة لتدخل القوى الغربية بأشكال متعددة، بما في ذلك التدخل العسكري المباشر. أربع دول هامة تشهد حاليا صراعات مسلحة خطيرة، فنسبة العنف الرمزي والمادي عالي جدا في المنطقة، وذلك بسبب قوى من داخل المجتمعات أو من خارجها.
- التباين المستمر في المواقف من القضية الفلسطينية، وتأثير ذلك على المخيال الجماعي.
- صعود الجماعات العنيفة المتخفية وراء الهوية، وإعلانها الحرب على الغرب معتمدة على المخزون الديني، وتعمل على ضرب الجسور التي قامت.
كل هذه العوامل جعلت الكيان العربي منقسما ومتوترا، حتى في علاقته مع ذاته. رغم ذلك، فالحوار العربي الأوروبي لا يزال صامدا، رغم ضربات الارهاب لكنه في حاجة إلى:
- إخراجه من منطق الدفاع عن الذات، وتجنب تنزيه الأنا وشيطنة الآخر. كما يجب الأخذ بعين الاعتبار اختلاف اوضاع كل من الجنوب والشمال، ليس فقط اقتصاديا واجتماعيا، ولكن بالخصوص ثقافيا ودينيا، وحتى سياسيا. هناك عشرات المسائل التي لم تحسم داخل المنظومات الجماعية.
كما على الدول الغربية التوقف عن سياسات الهيمنة والوصاية، وتحويل الآخر إلى عدو يراد ترويضه في نظام عالمي ظالم وغير عادل. ويجب وضع حد للنفاق السياسي المهيمن على العلاقات العربية الأوروبية. لا للمجاملات على حساب الحقيقة، لا بد من توفر قدر من الوضوح والتعامل بندية. ليس الهدف من الحوار هو أن يرضى الأوروبيون على العرب، وإنما الهدف هو بناء الثقة والتعايش.. هم شركاء رغم الاختلاف، والتسليم بأن الحقيقية نسبية وهي موزعة بين الخلق. على الجميع القبول بتعدد السناريوهات والمسارات ضمن أفق إنساني مشترك.
هناك ضرورة الانتقال بهذا الحوار إلى مستويات أكثر عمقا؛ من شأنها أن ترج المفاهيم السائدة والصور النمطية، وتبني الثقة، وتعمل على القيام بخطوات عملية تمس مباشرة حياة المواطنين من الجانبين.
وتعتبر
تونس مثالا حيويا لتحقيق تقارب تاريخي بين
أوروبا والعالم العربي. فليس من مصلحة أوروبا أن تقع تونس الديمقراطية بين فكي الجماعات الإرهابية. وحتى لا يحصل ذلك، على أوروبا أن تعدل من سياستها بشكل جوهري؛ لأنه في حال استمرت سياسات القطرة قطرة، فإن ذلك ستؤدي بالتجربة التونسية إلى الانهيار. تونس تتقدم سياسيا، لكن أزمتها اقتصادية بامتياز. وما لم تقرر أوروبا القيام بخطوات عملاقة من أجل إنقاذ تونس وإدماجها جديا في الفضاء الاقتصادي الأوروبي والعالمي، وتحويلها إلى شريك فعلي كما فعلت أمريكا مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من خلال مخطط مارشال، أو كما حصل جزئيا مع تركيا، فإن الأسوأ قادم. وعندها لن يتضرر التونسيون لوحدهم، وإنما سيكون لذلك السقوط تداعيات خطيرة على الأمن الحيوي لأوروبا.