ما إن صدر بيان اللجنة العليا لمتابعة وتنظيم الإيرادات والنفقات
العامة للدولة الليبية التي شكلها المجلس الرئاسي وضمت أعضاء يمثلون جبهتي النزاع
في الغرب والشرق، حتى أعقبه بيان ممهور بأسماء أربعة من أعضاء اللجنة العليا يمثلون
الجبهة الشرقية تحفظوا فيه على ما ورد في بيان اللجنة الأم بخصوص الاتفاق حول
إدارة البابين الثالث والرابع من أبواب الميزانية العامة.
وللتذكير فإن اللجنة تشكلت تحت ضغط جبهة طبرق ـ الرجمة ودعم أمريكي
لموقفهما حيال استئثار حكومة الوحدة الوطنية في الغرب بتحصيل الإيرادات وتحديد أوجه
إنفاقها، بعد أن اتجه تركيز جبهة طبرق ـ الرجمة إلى خيار الضغوط بوسائل عدة لتقاسم
عوائد النفط إثر فشل البدائل العسكرية في فرض أمر واقع مختلف.
كان من المتوقع أن تتعثر اللجنة العليا ولا تصل إلى ما أعلنت عنه من
أهداف والتي في حقيقتها لا تعكس مبتغى الأطراف المحتجة والساخطة، فالمسألة ليست
متعلقة بالفساد وهدر المال، فالجميع يتورط في الفساد والهدر، ولا هي بخصوص الإدارة
المثلى لموارد البلاد، فالدوافع سياسية والغاية هي الحصول على حصة من الإيرادات
العامة، وبالتالي فإن النهج الفني المحاسبي الرقابي الذي اتبعته اللجنة العليا لا
يلبي مطالب أطراف النزاع، وقد كان تخريجة لاحتواء مظهر جديد من الصراع، بعد أن
فشلت المفاوضات بين الطرفين على تقاسم السلطة.
هناك تطور مهم قد يكون له انعكاسه على الجدل الذي ثار حول أعمال
اللجنة العليا وبيانها الأخير والرد عليه من قبل أعضاء اللجنة عن جبهة الشرق، وهو
الإعلان عن توحيد المصرف المركزي من قبل المحافظ الصديق الكبير ونائبه مرعي
البرعصي، فهذا التطور له دلالته التي لا تنفك عن أعمال اللجنة العليا والأزمة التي
تواجهها الآن، ويمكن أن تُفهم استقالة مرعي البرعصي من عضوية اللجنة في هذا السياق.
لا يمكن فصل الإعلان عن توحيد المركزي الليبي عن ضغوط مارسها مجلس
النواب وقيادة الجيش التابعة له بخصوص تحكم حكومة الوحدة الوطنية مسنودة من قبل
المصرف المركزي طرابلس في الإيرادات وطرق صرفها، والتهديد بالتحرك إذا لزم الأمر.
من المحتمل جدا أن يلقي مسار توحيد المصرف المركزي بظلاله على آداء اللجنة العليا، وفي حال تقدم مسار توحيد المصرف وعمل تحت سلطة مجلس إدارته مجتمعا بانسجام ودون مشاكل فلن يكون هناك حاجة للجنة العليا، أما إذا تعثر مسار توحيد المركزي، وهو ووارد، فإن اللجنة ستكون ورقة الضغط حتى تتاح بدائل أفضل بالنسبة للجبهة المتحفظة على الوضع المالي الحالي والتي تطالب بحصة من عوائد النفط.
هناك مؤشرات على تغيير في موقف المحافظ تجاه الصراع ومحركاته،
بالمقابل، فإن جبهة الشرق تزحزحت عن موقفها المتعنت ضد المحافظ الحالي والذي صدر
في حقه قرار إقالة العام 2016م وظلت رئاسة مجلس النواب والقيادة العسكرية التابعة
له تناصبه العداء، لكن يبدو أن الموقف تغير، ويظهر ذلك في الخطاب الرسمي والمواقف
على الأرض.
من المحتمل أن يكون للعامل الخارجي تأثيره على رأي المحافظ في
التقارب مع جبهة الشرق والذي حظي بدعم أمريكي جعله يصمد أمام المواقف المتصلبة
لطبرق والرجمة تجاهه، ولا تخطئ العين سياسة المبعوث الأمريكي الخاص لليبيا،
ريتشارد نورلاند، الذي يدفع بقوة لترتيب الوضع المالي بشكل ينزع فتيل التأزيم
ويرضي طرفي النزاع، مع عدم استبعاد العامل الشخصي في التأثير على موقف الكبير من
توحيد المصرف المركزي، فقد كان الخلاف على أشده بين المحافظ ونائبه السابق، علي
الحبري، ويبدو أن الكبير رأى في إبعاد الحبري من قبل جبهة الشرق بادرة للتقارب
فتماهى معها.
المصرف المركزي هو خزانة الدولة وثبت أن المركزي قادر على ممارسة
رقابة وفرض قيود على إدارة المالية العامة للدولة خاصة تنفيذ قرارات الإنفاق العام
التي تصدر عن الحكومة حتى صار المحافظ شخصية يخطب ودها الجميع بما في ذلك رؤساء
الحكومات المتعاقبة، ومن غير المستبعد أن تراهن جبهة طبرق ـ الرجمة على هذا الخيار
بعد سلسلة من الإخفاقات التي منيت بها البدئل الأخرى بدء بإقالة المحافظ مرورا بشن
حرب على العاصمة وصولا إلى تغيير الحكومة. ومع التأكيد على أن الرهان على الحصول
على التمويل الذي تطالب به جبهة الشرق غير مضمون النتائج، فلا أقل من أن تغل يد
حكومة الوحدة الوطنية التي ينظر إليها بأنها تبني أمجادا وتكسب ومؤيدين للانتخابات
القادمة عبر توظيف المال العام.
إذن، فإن من المحتمل جدا أن يلقي مسار توحيد المصرف المركزي بظلاله على أداء
اللجنة العليا، وفي حال تقدم مسار توحيد المصرف وعمل تحت سلطة مجلس إدارته مجتمعا
بانسجام ودون مشاكل فلن يكون هناك حاجة للجنة العليا، أما إذا تعثر مسار توحيد
المركزي، وهو ووارد، فإن اللجنة ستكون ورقة الضغط حتى تتاح بدائل أفضل بالنسبة
للجبهة المتحفظة على الوضع المالي الحالي والتي تطالب بحصة من عوائد النفط.