الجوار عامل مهم في توطين الاستقرار في الدولة وتحسين وضعها السياسي
والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكلما كانت سياسات الدولة إيجابية تجاه جوارها
وكان الاستقرار هو السمة الغالبة على الجوار كلما عاد ذلك بالنفع عليها وأسهم في
إيجاد تفاعل ديناميكي وعلاقات قوية.
ولقد كان لليبيا قصتها الطويلة مع جوارها الإفريقي، ونرصد أنه ومنذ
استقلال البلاد وتأسيس الدولة العام 1952م تعددت علاقات
ليبيا مع الجوار وتحولت من
الحياد والتواصل الإيجابي والتعاون خلال الفترة الملكية إلى التدخل السلبي والتوتر
والقطيعة خلال العقدين الأولين من حكم القذافي، ثم التقارب حتى صار الفضاء الإفريقي
هو الساحة الأهم للفعل الليبي وذلك منذ تأسيس الاتحاد الإفريقي الذي كان للنظام
السابق دورا رياديا فيه إلا أنه لم يخلو من تعكير واضطراب بسبب النزعة الخاصة
بالقذافي ورؤيته المتفردة لشكل ودور الاتحاد.
ويشهد جوار ليبيا تطورات ليست بالجديدة إلا أن تأثيرها يمكن أن يكون
كبيرا وغير مسبوق في ظل الظروف التي تمر بها البلاد. ولا تقتصر التطورات على مناطق
الحروب والتوترات الأمنية كما في السودان والنيجر وتشاد، بل إن مصر وتونس تواجهان
منعطفا حادا قد تكون له تداعيات كبيرة، وحتى الجزائر التي تبدو الدولة المتماسكة،
هناك مؤشر على أنها يمكن أن تشهد موجة توتر في ظل الاستقطاب الذي تشهده.
بات جليا أن
الانقلاب الذي وقع في
النيجر يأتي في بعض أهم محركاته
كرد فعل على العلاقة المختلة بين النيجر وفرنسا التي استعمرتها في القديم، وأنه
جزء من حالة جديدة اجتاحت بعض الفضاء الفرنكفوني الإفريقي، فقد سبق انقلاب النيجر
أحداث مشابهة في مالي وبوركينافاسو.
يقابل تحدي فرنسا ونفوذها في تلك الدول تقاربا مع روسيا التي تبنت
استراتيجية تخص القارة السمراء، ويبدو أن أهم ساحة لهذه الاستراتيجية هي الفضاء
الفرنكوفوني، فكل الدول التي صادمت قيادتها الجديدة باريس تلقت دعما بشكل أو آخر
من موسكو، وكانت قوات فاغنر المدعومة روسياً جزء من معادلة التدافع في المنطقة
ويعول عليها القادة الأفارقة المناوئين لفرنسا في مواصلة تحديهم لباريس.
بات جليا أن الانقلاب الذي وقع في النيجر يأتي في بعض أهم محركاته كرد فعل على العلاقة المختلة بين النيجر وفرنسا التي استعمرتها في القديم، وأنه جزء من حالة جديدة اجتاحت بعض الفضاء الفرنكفوني الإفريقي، فقد سبق انقلاب النيجر أحداث مشابهة في مالي وبوركينافاسو.
هذا الاصطفاف والتدافع حاضر ومشاهد في ليبيا، مع خصوصية فرضتها
التطورات السياسية والأمنية الداخلية والخارجية التي غيرت نسبيا في مواقف الأطراف
الدولية تجاه الأزمة الليبية، ففرنسا لها مصالحها الكبيرة في البلاد وتعتبر الجنوب
الليبي منطقة نفوذ لها هو اليوم ساحة تحرك روسي، فالفاغنر يتمركزون في وسط وجنوب
البلاد، فيما تراجع وجود الفرنسيين هناك.
حكومة الوحدة الوطنية في الغرب الليبي أدانت الانقلاب في النيجر
وأيدت الجهود الإفريقية لإعادة الرئيس المنتخب، محمد بازوم، لمنصبه، فيما لم يصدر
عن قائد القيادة العسكرية خليفة حفتر موقفا صريحا بالخصوص، إلا أن التغيير العسكري
يعبر عن
موقفه ورؤيته السياسية، كما أن الروس الداعمين للانقلابات العسكرية في
بوركينافاسو والنيجر حلفاءه، وهو من أدخل قوات الفاغنر للأراضي الليبية، وبالتالي
فإن الحالة الأمنية والسياسية في الجوار هي انعكاس للتدافع الليبي.
موقف حكومة الوحدة الوطنية استند على رفض الانقلابات وتأييد مبدأ
حرية الشعوب في تقرير مصيرها ومن يحكمها عبر صناديق الاقتراع، إلا أنه موقف لا
ينفك عن الاستقطاب المحلي والدولي، حيث تقف حكومة الوحدة الوطنية قريبا من الغرب
الأوروبي وأبعد عن روسيا.
هناك التداعيات ذات الطبيعة الإنسانية من نزوح وهجرة والتي قد تقود
إلى مشاكل في المدى القصير تتعلق بالصراع واستقطاب مرتزقة وافدين من دول النزاع
إليه، وتغيير ديمغرافي في المدى الأطول يتعلق بالتقاطعات العرقية والإثنية بين
سكان تلك الدول وشرائح من السكان الليبيين.
وكما سبقت الإشارة، فإن التداعيات القائمة والمحتملة للصراع الدائر
في دول الجوار الجنوبي لليبيا تأتي في ظرف سياسي وأمني قاهر لا يساعد على مجابهتها
بل يعزز من أثارها في المدى القصير والأطول كما ذكر أعلاه. ويضاعف من الأثر السلبي
للتداعيات مواقف واتجاهات أطراف النزاع الليبي والذين إن لم يتورطوا في تغذيتها لن
يكونوا في مستوى التصدي لنتائجها الخطيرة.