كتاب عربي 21

عداء المستعمرة الصهيونية للأمم المتحدة

حسن أبو هنية
"تتعرض وكالات الأمم المتحدة المتعددة للهجوم اللفظي الرمزي والاستهداف المادي والجسدي"- الأناضول
"تتعرض وكالات الأمم المتحدة المتعددة للهجوم اللفظي الرمزي والاستهداف المادي والجسدي"- الأناضول
منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها المستعمرة الصهيونية على غزة، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلقت الدولة الاستعمارية العنصرية حملة دعائية واسعة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة تحت شعار مناهضة الساميّة. فرغم عجز المنظمة الأممية التي تمثل القانون الدولي، واستلابها من قبل الإمبريالية الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الإسرائيلي، فقد باتت منظمة الأمم المتحدة مستهدفة من قبل الكيان الاستعماري العنصري لكونها تمثل القانون الدولي، حيث تتعرض وكالات الأمم المتحدة المتعددة، كمحكمة العدل الدولية ومنظمة الأونروا وقوات حفظ السلام التابعة لها في لبنان، للهجوم اللفظي الرمزي والاستهداف المادي والجسدي.

ولم يسْلَم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعم لإسرائيل من الاستهداف، وتعرّض للتوبيخ حين أشار إلى دور الأمم المتحدة في إنشاء إسرائيل. فحين أكّد ماكرون أنه "لا يجب أن ينسى السيد نتنياهو أن بلاده أنشئت بقرار أممي"، في إشارة إلى القرار 181 الذي يقسم فلسطين إلى دولتين، واحدة "يهودية" والأخرى "عربية"، والذي تم تبنيه في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، ردّ عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية: "لم يكن قرار الأمم المتحدة هو الذي أنشأ دولة إسرائيل، بل النصر الذي تحقق في حرب الاستقلال"، أي حرب عام 1948 ضد الفلسطينيين والدول العربية.

لكن الهجمات المنهجية ضد الأمم المتحدة لا يعود تاريخها إلى حدث "طوفان الأقصى"، فتاريخ المستعمرة الإسرائيلية حافل في مهاجمة منظمة الأمم المتحدة.
فككت عملية "طوفان الأقصى" الأساطير المؤسسة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، وكشفت الحجاب عن طبيعة المشروع الصهيوني كظاهرة استعمارية تقوم على الإبادة والمحو والتطهير العرقي

لقد فككت عملية "طوفان الأقصى" الأساطير المؤسسة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، وكشفت الحجاب عن طبيعة المشروع الصهيوني كظاهرة استعمارية تقوم على الإبادة والمحو والتطهير العرقي، إذ لم تكتف المستعمرة الإسرائيلية على مدى أكثر من عام بشن حرب إبادة شرسة على غزة ثم لبنان؛ أسفرت عن سقوط أكثر من 150 ألف شهيد وجريح فلسطينيّ ولبناني، معظمهم من الأطفال والنساء، بل تجاوزت ذلك إلى تبني نهج عدائي تجاه المؤسسات الدولية والأممية، ليشمل مؤسسات وشخصيات عدة في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ومحكمة الجنايات الدولية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) في لبنان، ومنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

ففي 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أقرّ الكنيست قانونين لحظر أنشطة الأونروا في القدس الشرقية ومنع السلطة الإسرائيلية من العمل مع المنظمة أو ممثليها، وقد دفعت الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان عدة مسئولين أمميين لتوجيه مطالبات ونداءات لاتخاذ موقف حاسم تجاه الكيان الإسرائيلي، وصلت إلى حد المطالبة بتعليق عضويتها في الأمم المتحدة، فقد أوصت مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فرانشيسكا ألبانيزي، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بالنظر في تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وإعلانها دولة فصل عنصري، بسبب "الإبادة الممنهجة" التي ترتكبها في حق الفلسطينيين. وقالت ألبانيزي في تقرير قدمته إلى الأمم المتحدة إن إسرائيل لا ترتكب جرائم حرب في غزة فحسب، بل ترتكب إبادة جماعية "ممنهجة" في صورة مشروع يهدف لمحو الفلسطينيين من الوجود، لإقامة "إسرائيل الكبرى".

لم تقتصر ممارسات المستعمرة الإسرائيلية على الهجمات الرمزية اللفظية على الأمم المتحدة، فقد اعتمدت منذ تأسيسها على الإرهاب والاغتيالات، ففي 17 أيلول/ سبتمبر 1948، أي بعد أربعة أشهر من إنشاء دولة إسرائيل، ومع اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، اغتيل الكونت السويدي فولك برنادوت، وسيط الأمم المتحدة منذ أيار/ مايو 1948، في القدس. وكان برنادوت يعيق الطموحات الإسرائيلية بـ"خطة سلام" لم تكن تريدها إسرائيل، وقد قُتل بالرصاص على يد أربعة رجال يرتدون الزي العسكري، ولكنهم ينتمون إلى جماعة شتيرن، وهي حركة قومية متطرفة، وهذه الجماعة المسلحة تحتلّ اليوم مكانة بارزة في متحف الجيش الإسرائيلي.

وفي اللغة العبرية، يُطلق اختصارا على الأمم المتحدة "أوم"، وقد اعتاد مؤسس دولة الكيان الإسرائيلي ديفيد بن غوريون أن يقول ساخرا "أوم، شْموم"، والتي يمكن ترجمتها بعبارة "نحن لا نكترث بالأمم المتحدة". ويمكن فهم الموقف الاستعماري الإسرائيلي ومقاربته بالرؤية السياسية للإمبريالية الأمريكية، حيث تتعرض الأمم المتحدة للذم من قبل تيار واسع من الطبقة السياسية الأمريكية، التي لا ترى إمكانية خضوع الولايات المتحدة لأي هيئة دولية ولا الالتزام بأي قانون دولي عام يتعارض مع المصالح والسياسة الأمريكية.

منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الصهيونية على غزة أطلقت المستعمرة الإسرائيلية حملة منسقة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة، وعملت دون كلل على تصوير المنظمة الدولية ككيان منحرف داعم للإرهاب وضد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، واتهمت الأمم المتحدة بالعمل على مساندة الإرهاب والحيلولة دون تمكين تل أبيب من تحقيق أهدافها.

منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الصهيونية على غزة أطلقت المستعمرة الإسرائيلية حملة منسقة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة، وعملت دون كلل على تصوير المنظمة الدولية ككيان منحرف داعم للإرهاب وضد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، واتهمت الأمم المتحدة بالعمل على مساندة الإرهاب والحيلولة دون تمكين تل أبيب من تحقيق أهدافها
وأصر كيان الاحتلال على وصف حماس في غزة وحزب الله في لبنان بأنهما كيانان "إرهابيان"، وهي أوصاف لا تنسجم مع مبادئ الأمم المتحدة التي لا تصنف حماس منظمة إرهابية وتدرجها في سياق حركات التحرر. فمن على منبر الجمعية العامة في 27 أيلول/ سبتمبر 2024، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمم المتحدة بـ"بالوعة من العصارة الصفراوية المعادية للسامية التي يجب تجفيفها"، وقال إنها إذا لم تمتثل، لن "تُعتبر أكثر من مهزلة حقيرة". ورغم مغادرة نحو ثلاثة أرباع الحاضرين القاعة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا للحد من غطرسة نتنياهو، بل تزايد هجومه ضد جميع المنظمات الأممية الموجودة في العالم، سواء كانت عسكرية ("القبعات الزرقاء" أو قوات حفظ السلام) أو مدنية (وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين- الأونروا). وتصف المستعمرة الإسرائيلية أي انتقاد لجرائمها في غزة بأنه "معاداة للسامية".

منذ تأسيس المستعمرة الإسرائيلية أعلنت عن ازدرائها للأمم المتحدة والقوانين الدولية، وتحت ذريعة الخطر الوجودي ومبدأ الدفاع عن النفس، اعتمدت إسرائيل عقيدة تنص على شن ضربات وحروب استباقية ضد جيران إسرائيل في حالة وجود تهديدات تعتبرها وجودية قبل أن تتحقق. ففي عام 1982، عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان لطرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية وتغيير حكومة البلاد، أوضح رئيس الوزراء آنذاك، مناحيم بيغن، أنه كان يشن الحرب "لأننا نرفض أن تحدث تريبلينكا جديدة" (معسكر تريبلينكا هو معسكر إبادة تم بناؤه وتشغيله من قبل ألمانيا النازية في بولندا المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية). وبعبارة مماثلة تحدث بنيامين نتنياهو في اليوم التالي للسابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عن "أكبر جريمة ضد اليهود منذ المحرقة". وهي إشارات واضحة للتخلص من انتقادات الأمم المتحدة بذريعة وجود "خطر وجودي" والحديث عن "معاداة السامية"، رغم أن من يتعرض لخطر وجودي حقيقي وحرب إبادة هو الشعب الفلسطيني، ومن يتعرض لجرائم الحرب هو الشعب اللبناني.

إن نهج الحرب الوقائية التي تعتمده المستعمرة الإسرائيلية، وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية وممارسات المحو والإبادة، معروفة جيدا، ولذلك حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش مبكرا من الأساليب الوحشية التي ستمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، فبعد أربعة أيام من هجوم حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ذكّر غوتيريش بأنه وبموجب القانون الدولي "يُمنع البتّة استهداف مباني الأمم المتحدة وجميع المستشفيات والمدارس والعيادات". فقد كان غوتيريش يعلم من واقع التاريخ الخبرة والتجربة طبيعة الإجراءات الانتقامية التي سيتخذها جيش المستعمرة الإسرائيلية.

وفي 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، عندما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يهدد اللبنانيين صراحة بـ"نفس الدمار والمعاناة التي في غزة" إذا لم يذعنوا لمطالبه "بالقضاء على حزب الله"، قام الجيش الإسرائيلي بقصف ثلاثة مواقع تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) عمدا. وبعد ثمانية أيام، سُجّلت خمس هجمات إسرائيلية على الأقل ضد هذه المنظمة، وفي 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، اقتحمت دبابتان تابعتان للاحتلال موقعا لليونيفيل، ليُظهر بوضوح عدم اكتراثه بالضغوط الدولية. وفي غزة، وحتى 14 آذار/ مارس 2024، أحصت الأونروا "ما لا يقل عن 165 عضوا قُتلوا أثناء أداء واجبهم".

بلغت الوقاحة والغطرسة الصهيونية أوجها في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، حين أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن غوتيريش "شخص غير مرغوب فيه" في بلاده. ولم تكف إسرائيل خلال العام الماضي عن المطالبة بمغادرة الأونروا الأراضي الفلسطينية المحتلة، متهمة إياها بتوفير الحماية لـ"الإرهابيين"، ونظمت إسرائيل حملة دعائية نشطة تهدف إلى تصوير الأونروا على أنها "وكر للإرهابيين". ففي 26 كانون الثاني/ يناير 2024، ادّعى نتنياهو أن 12 موظفا تابعا لهذه الوكالة شاركوا في الهجوم الذي نفذته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وجاء هذا الإعلان في اليوم نفسه الذي فتحت فيه محكمة العدل الدولية تحقيقا بخصوص "خطر محتمل بوقوع إبادة جماعية" في غزة. وسرعان ما حققت إسرائيل أول نجاح كبير لها، ففي 23 آذار/ مارس 2024، صوّت الكونغرس الأمريكي على وقف التمويل الأمريكي للأونروا حتى آذار/ مارس 2025. وهو موقف لم يتبعه في نهاية المطاف سوى القليل من دول العالم.

يبدو أن المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعها إلى عدم الاكتراث بالأمم المتحدة وحالة العزلة والنبذ الدولية المتعاظمة، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه واقتربت نهايته

وقد باشر البرلمان الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2024 مناقشة مشروع قانون لتصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"، وقد صادقت الهيئة العامة للكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة على قانونين يقضيان بوقف أنشطة الأونروا في إسرائيل. ويتطلب أي مشروع قانون التصويت عليه من الكنيست بثلاث قراءات ليصبح قانونا نافذا. وأثار قرار الكنيست انتقادات دولية واسعة، وقال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، إن القرار الصادر عن الكنيست الإسرائيلي بحظر "أنشطتنا غير مسبوق، ويشكل سابقة خطيرة، ويعارض ميثاق الأمم المتحدة".

خلاصة القول أن عملية "طوفان الأقصى" فضحت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية التي تقوم على المحو والإبادة والتطهير العرقي، ونهج الحروب الوقائية وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية، وكشفت عن العداء المتأصل لكيان الفصل العنصري للقانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة.

وقد شكلت غزة ذوات أخلاقية جديدة ترفض السردية الصهيونية وتناهض الاستعمار الاستيطاني، وأصبحت القضية الفلسطينية مسألة عدالة سياسية وقضية أخلاقية، فمقاومة السكّان الأصليين الفلسطينيين كانت منذ البداية ضدّ الاستعمار الاستيطاني وحرب الإبادة والتطهير العرقي، ومن أجل التحرير، وما قامت به حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يقع قي سياق من عمليات المقاومة الفلسطينية التي بدأت منذ العام 1948. ويبدو أن المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعها إلى عدم الاكتراث بالأمم المتحدة وحالة العزلة والنبذ الدولية المتعاظمة، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه واقتربت نهايته.

x.com/hasanabuhanya
التعليقات (0)