تحدثنا في المرة الماضية عن تلك الظواهر العشوائية التي تحكمت في صياغة السياسات العامة التي تتعلق بمعاش الناس وخدماتهم، وأكدنا أن مسألة "السيستم وقع" لها من العوامل والجذور؛ التي تؤكد في حقيقة الأمر أن المسألة ليست في هذا العرض الذي نتحدث فيه عن "السيستم وقع" لكنها في الحقيقة إنما تحيلنا إلى مشكلة أخطر، هي أصل النمط، وتتعلق بأن السيستم برمته فاشل.
تواردت علينا الخواطر ونحن نشرع في الحديث عن هذه القصة، إلا أنه من المهم في البداية أن نذكر بخطابين:
الأول يؤكد على التعليم كمؤشر على نهضة الأمم، وهو ما نتخذه من خطاب "مهاتير محمد" في تجربة النهضة الماليزية؛ حينما أكد وبشكل قاطع أن "إصلاح نظام التعليم كان أساس النهضة في ماليزيا" ولكن ذلك يتم في واقع الأمر عبر عن إصلاح حقيقي وأصيل، حتى تكون السياسات التعليمية رافعة لنهوض المجتمع وعمرانه، حيث تبلغ نسبة الإنفاق على التعليم من الموازنة العامة للدولة ما متوسطه 20 في المئة.
أما الخطاب الثاني، فهو يؤكد في صدره على مقولة ذائعة الصيت وردت على لسان السيسي: "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"، والتي كانت تشير إلى تصور خطير لمسألة التعليم والخدمات التي تتعلق به، كما تشير إلى تلك السياسة التعليمية التي تبدو لنا عشوائية، رغم أن الحديث لا ينقطع عن مهرجانات تطوير التعليم.
هذان الخطابان، بما يشكلان من رؤية للسياسة التعليمية، تجعل من المهم أن نتعرف على العوامل التي تؤشر لها قصة وقوع السيستم في مصر، خلال امتحانات قررت وزارة التربية والتعليم أن تجعلها على "التابليت"، بدعوى أن ذلك سيكون أفضل أسلوب لمواجهة مشكلة تسريب الامتحانات. وفي واقع الأمر، فإن هذا القرار لم يكن إلا تأشيرا على حالة العشوائية في اتخاذ القرارات، والتعامل المظهري مع مسألة تطوير التعليم، وكأن اقتناء "التابليت" ودفعه إلى الطلاب هو كل العملية لأن تنصلح بها منظومة التعليم. وكما أكدنا، فإن ذلك ليس إلا تأكيدا لنظرية "مالك بن نبي" في تكديس عالم الأشياء، دون التعرف على الأساليب والبيئة الحقيقية لتشغيل المنظومة التي تتعلق بتلك الآلة؛ التي يمكن أن تستخدم في الميدان التعليمي.
تصور خطير لمسألة التعليم والخدمات التي تتعلق به، كما تشير إلى تلك السياسة التعليمية التي تبدو لنا عشوائية، رغم أن الحديث لا ينقطع عن مهرجانات تطوير التعليم
نقول ذلك في إطار تتأكد فيه تلك الروح السلطوية العامة في النظر إلى المواطن وخدماته، خاصة في ما يتعلق بالعملية التعليمية والصحية. هذه الحالة العشوائية التي تلخصها تلك المقولة "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"؛ إنما تعبر عن كيف تصاغ السياسات التعليمية في مصر، في إطار يتعلق بنظريات مثل "الفكاكة" و"الفهلوة" و"الكوفتولوجي" كطريقة حياة، ودراسات الجدوى التي ليست لها أهمية، بل هي معوقة لإنجاز المشاريع القومية الكبرى المهمة.. هذه هي اللغة التي تتعلق بخطاب النظام حول هذا الشأن، والتي تؤكد مناخا عاما بالنظر إلى هذه السياسات التي تتعلق بالمواطن.
إن هؤلاء في حقيقة الأمر لا يهمهم التعليم الذي ينهض، ولا الوسائل التي ترتقي به، ولكن في إطار من حالة المظهرية الزائدة في الإنجاز، وفي إطار عقلية "اللقطة"، تبدو المسألة ليست إلا مجرد إعلانات مظهرية. ولنا في تلك الضجة الإعلانية التي صاحبت محور روض الفرج والحديث عن أعرض كوبري ودخوله "موسوعة جينس" للأرقام القياسية.. كل هذه الأمور إنما تؤكد في حقيقة الأمر تلك الحالة المظهرية الفاضحة؛ التي تكشف بعد ذلك حالة من العشوائية الواضحة.
هل أتاك حديث "الكوفتولوجي" واللواء عبد العاطي، وحالة الفهلوة والفشخرة التي تؤكد أن "السيستم" لا يكون الأمر بصدده مسألة وقوعه مرة أو مرات، بل إنما هذا يؤكد أن "السيستم" في ذاته، إن كان هناك نظام، يحمل في مكنونه أهم عناصر فشله، ما بين الديكورية في
التطوير والإعلانية والمظهرية في الأفعال والخطاب العام الذي لا يقيم وزنا لدراسات جدوى أو تخطيط، فإن الأمر المؤكد أن "السيستم" حتمي الوقوع دائما؛ لأنه ببساطة مسكون بالفشل.
هذه الأمور إنما تؤكد في حقيقة الأمر تلك الحالة المظهرية الفاضحة؛ التي تكشف بعد ذلك حالة من العشوائية الواضحة
سنقدم مجموعة من الدلائل التي تؤكد هذا الفشل الذريع، ذلك أن وزير التربية والتعليم أراد في البداية أن يسند هذا الفشل إلى نظرية مؤامرة خسيسة تستهدف عمليات تطوير التعليم. فقد أعلن الوزير الهمام أن هناك غرفة عمليات منذ وقوع "السيستم" في أول الأزمة؛ وأن غرفة العمليات قد رصدت منذ البداية أن هناك ما يقارب خمسة ملايين شخص كانوا يهاجمون "السيستم" قبل الامتحان، وأن الوزارة قد ضاعفت سعة السيرفر خمسة عشر مرة لاحتواء الأزمة. ورد عليه الشباب الذين يفهمون في هذه المسائل التقنية؛ مؤكدين أن الأمر ليس على هذا النحو، بل يجب أن يكون النظام معدا لأي نسبة دخول مؤمن في تلك العملية الامتحانية. ومن هنا، فإنه كان على الوزير أن يعترف بالفشل في إدارة الأمر وإدارة تلك الوسائل التقنية، وتهيئة البيئة لاستخدام هذا الأسلوب في الامتحانات.
وحينما حوصر الوزير بمثل هذه الحقائق والمعلومات، لم يكن منه إلا الحديث عن أن الخزينة العامة لا توفر له الأموال اللازمة لإدارة هذه المسألة، وأنه لا يمكن استمراره في ظل هذه الحال، وأنه لا يستطيع أن يدفع مقابل استخدام الإنترنت، ولذلك "السيستم وقع".
ضمن هذه العمليات، فإن ذلك يعني ضمن ما يعني؛ أمرا شديد الخطورة، وهو أن عملية الإعداد الحقيقي للمسألة لم تكن وفق الأصول المرعية والتقنية في تسيير هذه العملية، ولكنها "الفكاكة والمظهرة واللقطة" التي أريد لها أن تؤخذ من دون أن تتحصل للعملية شروط فاعليتها وأصول تطبيقاتها.
عملية الإعداد الحقيقي للمسألة لم تكن وفق الأصول المرعية والتقنية في تسيير هذه العملية، ولكنها "الفكاكة والمظهرة واللقطة"
وحينما ضُيق الخناق حول الوزير، واشتكى الطلاب من "التابليت" وطبيعة الآلة التي تسلموها، لم يكن منه إلا أن باح بالسر، فـ"التابليت" المذكور
قامت بتوريده هيئة من هيئات العسكر.. إنها السبوبة التي تتحرك خلف كثير من الأمور والقرارات، فلا تعليم ولا تطوير يهم، المهم أن تمر الصفقات ويقع "السيستم" كل مرة؛ لأن "السيستم" في الواقع مسكون بالفشل والفساد والعسكر.
وتأتي بعد ذلك بيئة الاحتيال التعليمي التي تدار ضمن عمليات تطوير التعليم والبيانات؛ التي تعطى خصيصا لمنظمات دولية، أو لجهات يمكن أن تعطي بعض القروض والمساعدات لتطوير التعليم، ليكون ذلك
مجرد عملية احتيال كبرى و"سبوبة" ليس من غرضها التطوير.. في كل مرة سيأخذون الأموال ولا يحدث التطوير، ويستمر الفشل و"السيستم" يقع.
هكذا هي قصة "السيستم" التي أردنا أن نؤكد عليها ضمن هذه العملية العشوائية في التعاطي مع القضايا الحيوية والمحورية، ومنها السياسات التعليمية والصحية؛ التي وضعوها في الدستور زينة، بالنص على أن لا بد أن يصرف على تلك الخدمات ما لا يقل عن 3 في المئة من الميزانية العامة، فيتم الاحتيال على ذلك من كل طريق، فلا تكون النسبة الحقيقية إلا فتاتا يقع من خزينة الدولة للتعامل مع هذه الأمور. فإن قيل لماذا لا نطور التعليم؟ قالوا من أراد أن يطور فليدفع.. إنها الترجمة الحقيقية لـ"سيستم" فاشل وتصور خائب (يعمل إيه التعليم في وطن ضايع). ونسأل: من ضيع هذا الوطن؟!