كتاب عربي 21

"السند الحضاري" للمقاومة و"رمزية" الطوفان.. قاموس المقاومة (49)

سيف الدين عبد الفتاح
استشهد السنوار "في ميدان القتال"- الأناضول
استشهد السنوار "في ميدان القتال"- الأناضول
مشهد مهيب ذلك الذي سجلته طائرات العدو الجبان لاستشهاد القائد "أبو إبراهيم"؛ أفاض من أفاض في رسمه "عصا من خشب ترفعها ذراع مصابة مستندة على جسد ستيني أنهكته الجراح، تنال شرف القتال لآخر نفس في العمر، مشهد لا يمكن أن يتصوره إنسان، أو يؤلفه خيال، ولكن إذا أراد الله تعالى بعبد خاتمة شريفة، فتتم مشيئته رغم الأسباب التي لا يحسب أصحابها أن هذا يمكن أن يقع. من لا يعتبر بمشهد كهذا، فهو أعمى البصيرة".

وقد تباينت وجهات النظر حول تفسير سلوك القائد أبو إبراهيم برميه عصاه تجاه المسيرة الإسرائيلية، وصاغوا من هذا الفعل الحر الشريف المقاوم جملة في مثل يحكي نهاية مشهد الاستشهاد "رميته بعصا السنوار"؛ فمن قائل إنها تفيد "أديت ما عليّ بآخر ما لدي"، وقائل "استفرغتُ وسعي وحتى الرمق الأخير"، ومن رأى أنها "دلالة على الثبات والإقدام والبطولة حتى اللحظة الأخيرة". وتعددت المقولات التي تعرف جملة المثل بأحوال ومعاني قريبة مما ذكرت، إلا أن من أكثر ما لفتني ما كتبه أحدهم: "يقال رميته بعصا السنوار؛ إذا لم تبق لك طاقة تقاوم بها عدوك، فاستفرغت الجهد في إلحاق النكاية به بآخر نفس تتنفسه، ولم تستسلم لضعفك وقلة حيلتك.. قال ابن فصاحة، وأصل المثل فيما اشتهر، إن مقداما شجاعا كان يقال له يحيى السنوار دوّخ أعداءه، وأوقد فيهم شرارة الطوفان التي أقضت مضاجعهم، ولم يزالوا به حتى اشتبك معهم ذات يوم، وقاوم مقبلا غير مدبر، فأغار عليه العدو الغاصب بقذيفة مدفع أوهنت قواه، فلم يزل يلملم كسوره، ويضمد جراحاته، وهو جالس على أريكة تفخر بشجاعة الأحياء في زمن الأموات، حتى لمح طائرة تسيرها عن بعد أيادي الجبن والخور، فأزَّتْهُ عزة المقاوم الفذ، فألقى على المسيرة عصاه التي توكأ عليها ليرسم للأجيال معالم الاستمرار في النضال".

هكذا هي صور القادة وسيرتهم، لقد استشهد القائد إسماعيل هنية (أبو العبد) باغتياله غدرا في إيران، واستشهد القائد يحيي السنوار (أبو إبراهيم) في ميدان المعركة يحمل سلاحه، وأراد العدو أن يجعله أمثولة فصار مثلا وأرادوا أن يئدوا فكرته فصار علما، وأرادوا وأد معنى المقاومة فصار قدوة ورائدا، وظنوا بمقتله أن مقاومة ستخفت أو تتوارى فازداد لهيبها وأدوارها، وصار أبو إبراهيم "بطلا"، و"أيقونة" و"رمزا". وهو باستشهاده في ميدان المعركة صار أملا، إنه الشعار الدائم "إنه لجهاد نصر أو استشهاد"؛ هكذا ولد الأمل مَروِيا بالدم، طلبا للحرية وعملا للتحرير، نعم التحرير قادم بفعل هؤلاء وأصحابهم، لا يحررون فلسطين فحسب، ولا بيت المقدس والأقصى على جلاله قدر هذا المقصد العظيم، إنهم سيفتحون الباب واسعا لصيحات التغيير الناهض في الأمة ومنها ولها، نعم سيحررون الأمة من الاستبداد والطغيان، ومن العدو الغاصب والاحتلال والعدوان.

إن سلسلة الشهداء بسند حضاري متصل من المقاومة والجهاد تؤكد هذه المعاني لقد استشهد عز الدين القسام والشيخ أحمد ياسين، والقائد عبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، ومحمود المبحوح، وإبراهيم المقادمة، وعماد عقل، ويحيي عياش، عدنان الغول، محمد الزواري، نزار ريان، سعيد صيام، أحمد الجعبري، إسماعيل أبو شنب، جمال سليم، جمال منصور، محمد أبو شمالة، خليل حراز، أيمن نوفل، عز الدين الشيخ خليل، رائد العطار، فادي البطش، وتيسير الجعبري، وبهاء أبو العطا، وخالد منصور، وخليل صلاح البهتيني، طارق عز الدين، وصالح العاروري، وإسماعيل هنية، ويحيى السنوار، بالإضافة إلى العديد من أبناء القيادات، وآلاف الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل سواء في العام الجاري أو الأعوام الماضية.

قالوا عن أبو العبد إنه وصحبه يعيشون في رفاهية وقصور هو وأبناؤه، فصار أبا الشهداء وأخا الشهداء، وجد "الأحفاد" من الشهداء، وبسند لا من نسب كتب في شهادات الميلاد بل في سند الشهداء "أحياء عند ربهم يرزقون" وخاب من قال؛ لأنهم رأوه بعد استشهاد ثلاثة من أولاده "ربنا يسهل عليهم"، وحينما بكى ابنه الكبير إخوته واساه وقال "أنت الكبير"..

وها هم يعيدون الكرّة مع "أبو إبراهيم"، قالوا إنه يختبئ في الأنفاق مذعورا لا يقوى على الخروج، أو لا يستطيع، أو أنه منعّم في نفقه، استكثروا عليه أن يكون حيا، ولم يعرفوا أو يعترفوا أنه طالب شهادة، وطالب تحرير وقد حمل رسالته بين جوانحه. وقد خاب من افترى، لقد أكد أبو إبراهيم أنه شجاع في ميدان القتال، ينافح عن أهله، فهم منه، وهو منهم، وقدم كل ما يمثل نموذجا لأهل غزة، فلم يتوار عن ميدان القتال تحت الأرض وفوق الأرض.

هذا الأديب المقاوم، والمقاوم الأديب، كأنه يقرأ بظهر الغيب لما سيؤدي إلى تحرير فلسطين كاملة وردها إلى أهلها بعد تحريرها، وهذا ما رصده في روايته "الشوك والقرنفل" وفقا لقراءة من الباحث "علاء أبو بكر" في "مركز رؤيا"؛ الذي أشار إلى أن الرواية تعكس "عمق التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني وجمال الروح الشعبية، والإصرار الذي يتحلون به، من خلال تفاصيلها"، وأن "النضال الفلسطيني رحلة مليئة بالتحديات والأمل، وتؤكد أن الحرية تتحقَّق بالجهد والتضحية، وأن المقاومة هي انعكاس لقوة الإيمان".

تظل رواية "الشوك والقرنفل" علامة فارقة في الأدب الفلسطيني المقاوم، تُرسِّخ في وجداننا أن الجهاد هو طريق الحرية الحقيقية، وأن صمود الشعب الفلسطيني مستمر لا ينكسر، يخط بدماء الشهداء حروف النصر الموعود. وإن درب الحرية ليس سهلا، ولكن الإصرار على المقاومة هو ما يعزِّز الإيمان بأن الغد يحمل في طياته النصر والتحرير. تلك هي الرسالة الكبرى التي حملتها الرواية للأجيال القادمة، بأن النضال المستمر هو طريق التحرير الأكيد، وأن الشوك الذي يعترض طريق المجاهدين هو جزءٌ من طريق الشوك المحيط بالقرنفل، والذي يُفضي عقب اقتلاعه إلى النصر المنشود.

هذه الرسالة للمرجفين والمنافقين والعجزة، والمشلولين والجبناء والخونة لأمتهم في العالمين، مالكم؟ اصمتوا أصحاب الخيبة والخيانة، والذل والمهانة، والوهن وقبول الإهانة، أليس لكم في السكوت سعة بعد الفرار في الزحف، والإدبار عن معارك التحرير والانتصار، ألا أيها المخذلون، المطبعون والمهرولون إلى العدو، والمتكلمون بمفرداته، ألا أيها المتصهينون، ما لكم تدّعون الحكمة، ولم يكن ذلك إلا جبنا وهوانا، وتروجون أن هؤلاء أصحاب النظر العميق يعملون للحياة وألوانها، وأن من استشهدوا يحبون الموت، نعم تحبون حياة الذل والهوان والمهانة.

لقد صدق رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن ماهية الوهن (قيل ما الوهن يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام" حب الدنيا وكراهية الموت")، ألا أيها الواهنون المهانون، لن تعرفوا يوما معنى للعزة والكرامة، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وذيول المهانة، ألا ساء ما تحكمون، أخرجتم وسائل إعلامكم تشمتون في "أبو العبد" وفي "أبو إبراهيم" بعد استشهادهما وتصفونهما بالإرهابيين؛ ألا في الفتنة سقطتم، ومع أهوائكم فهويتم، اصمتوا صمت الجبناء، مالكم ومعاني العزة والكرامة، والجهاد والمقاومة بأمانة.

يا أهل المقاومة، الفعل المقاوم فكرة، المقاومة في الذاكرة الحضارية عبرة، المقاومة معنى ومبنى ومغزى، ومن أجل ذلك فلنتعامل مع الفكرة والقيمة. إن صدر المقاومة في الآونة الأخيرة إنما يكمن في الطوفان (الجامع والناظم بين الفكرة والخبرة والعبرة) ومن ثم ليس مهما الإعلان للآخرين عن رأس للمقاومة، المقاومة الآن في عهدة الطوفان، رئيسها الطوفان، وعبرتها الطوفان، وخبرتها الطوفان، ذلك العمل المذهل والمعجز عن طريق تحرير الأمة وليس فقط فلسطين.

حتى يكون الطوفان رمزا تحمله تلك الثلة المباركة نيابة عن الأمة، رمزا تحمله إلى إمكانيات الأمة ومكناتها ومكانتها ومكانها وتمكينها، وهو نداء من الطوفان على أمة المقاومة والجهاد، أما الآخرون من الغرب الذين يتحدثون عمن سيخلف السنوار (أبو ابراهيم)، دعهم يخمنوا، دعهم في غيهم يعمهون، دعهم يقتلهم السؤال، ويقتلهم ألا يجدوا له إجابة. الرئيس هو طوفان وما أدراك ما الطوفان. قالها "أبو العبد"؛ "نحن قوم كلما سقط منا سيد شهيدا، قام سيد"، والكل ينتظر الظفر بالاستشهاد، كلهم طلبوا الشهادة فنالوها، نعم كلما سقط سيد قام سيد، من يتصدر المقاومة هو شأن المقاومة لا أحد يملي عليهم أحدا، ولا يكرههم على نهج غير المقاومة، وكلهم طوفان الأمة القائم والباقي. إنها سلسلة المقاومة في غزة ذات السند الحضاري المتصل.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)