تساؤل مشروع قد يطرحه البعض، ولكن لا أحد يتوقف عنده لمراجعة سياستنا التعليمية في
مصر أو التخطيط لها، أو مراجعة عمليات
التطوير المستمرة التي لا تثمر، والتي غالبا ما تتخذ شكلا "كاريكاتوريا" بلا مضمون.. لماذا يتدهور التعليم في عموم مصر بكل أشكاله ومراحله؟!
قد لا يتوقف البعض في إجابته عند بيت الداء المتمثل في محصلة مهمة يتغاضى عنها البعض؛ بل قد يقوم البعض الآخر بالتعمية عليها عمدا.. مفاد تلك المحصلة أنه لا يمكن أن تولّد حالة الاستبداد بالوسط العام، والتعليمي منه على وجه الخصوص؛ إلا صياغات عشوائية تدل على ما يمكن تسميته "بإدارة الفوضى"، في تخطيط السياسات التعليمية وتحديد الخيارات واتخاذ القرارات. ومن ذلك ما يدعى بعمليات التطوير، في إطار صياغات المعايير العولمية والعالمية ضمن مشاهد شتى تحكمها مسألتان: الموضة والشعار. "إنه التطوير" الذي يتخذ شكل الموضات في العملية التعليمية من غير تهيئة بيئة تعليمية وسياق مواتٍ لعمليات التغيير والتطوير، وهو ما يجعلها في الواقع عمليات محفوفة بالمخاطر، ومآلها
الفشل الأكيد في التنفيذ والممارسة.
ما زلت أتصور أن الحالة التعليمية وعمليات التطوير الملحقة بها؛ آلت في مصر إلى نموذج "اللحاق" أو "الإلحاق"، وتكديس الأشياء، واستعارة المعايير والأدوات، دون التعرف على معايير الصحة والصلاحية ومعايير اللياقة والمناسبة، وجغرافية هذه المعايير وشروط تفعيلها وفاعليتها. إننا أمام كلمات تستخدم وشعارات تُرفع، لا أطر حاكمة للتطبيق. وفي كل مرة ستبرز موضات، نواكبها ونرتديها دون مراعاة فن اللياقة والمناسبة، وأصول النفع والمواءمة، ويكون المخرج أقرب إلى حالة كاريكاتورية تبعث على السخرية؛ أكثر مما تشير إلى الجدية التي هي مقدمة الجودة، والجدية التي هي عنوان الجدة. وصارت دعوات التطوير أقرب إلى حالة "الموالد" التي يختلط فيها الحابل بالنابل؛ ذلك أن هذا الإصلاح الفعال ليس في اتخاذ مشروعات للتطوير على نحو شكلي أو على نحو تبعي، بدعوى ضرورة اللحاق بالركب العولمي وقطار العولمة الذي (على حد قولهم) لا ينتظر أحدا.
ومن هنا، وجب علينا أن نفرق بين هذا النوع من الإصلاح وبين الإصلاح الضارّ، وربما الضالّ الذي استعار قيما ومفاهيم غريبة فرضها على بيئته وهي بالضرورة لا تثمر.
أبعد من ذلك علينا أن نشير إلى ذلك "الوسط العشوائي" في مجتمع التعليم، والذي يشير إلى واقع النظم والمؤسسات والتكوينات التعليمية التي صارت نتفا وطرقا من أنظمة مختلفة؛ كل تلك الأنظمة تتعايش أو تتضارب بعضها مع بعض، ذلك الوضع العشوائي لا يسير ضمن استراتيجية جامعة واضحة يواجه المشرعين والمصلحين وأصحاب السياسات ويلقي بهم في صعوبات جمة؛ لأنهم يتعاملون مع واقع ليس متسقا وليس منسجما. ولأن الواقع العشوائي للكيانات التعليمية ليس واحدا، فلا يقدم له علاج واحد يرتب آثارا واحدة وينتج النتيجة ذاتها. هذا بالضبط ما يشير إليه الحكيم البشري "بالنمو المعوق".
إن من أخطر أسباب ما عانينا ونعاني من التطور أو التطوير المعوق؛ أننا لا نعدّل القديم ونجدّده ونغيره، إنما نستبدل به غيره، ونحطمه ونلغيه ونقيم بدلا منه هيئات ومؤسسات (ومنها المؤسسات التعليمية) ليست خارجة من القائم ولا مصنوعة من مادته. ثم إن هذا التجديد وفقا لمشروعات التطوير الجامعي؛ لم يأتٍ بالإحياء وإعادة التشكيل وإعادة التوظيف، إنما جاء بالهدم والبتر والإقصاء. ذلك أن النمو الرشيد للسياسات التعليمية هو بالضرورة غير النمو المعوّق، والإصلاح الضار والإصلاح الضال غير الإصلاح النافع الفاعل.
التعليم يقع في قلب الظواهر العشوائية، والظواهر العشوائية هي إفراز لمجتمعات تتسم بالفوضى والعشوائية والاستبداد. يفرز المجتمع العشوائي ظواهر عشوائية، وتتراكم الظواهر العشوائية لتحكم بناء مجتمع عشوائي، وهكذا الجدلية والتفاعل بين المجتمع العشوائي والظاهرة العشوائية، فهي حالة من الاختلاط والاختلال والمصادفة والتداخل، وقد تعبر عن مظاهر وتأشيرات انحرافية، ومرضية، تمثل في البداية حالات استثنائية؛ تتراكم في الوجود وتستمر في المشاهد، وتنتشر في الجنبات. ويمكن رؤية بعض الآثار السلبية الدالة عليها وجودا واستمرارا وآثارا.
العشوائية تشير إلى كلمات في اللغة، من مثل خبط عشواء، أو اختلاط الحابل بالنابل، أو الفوضى. وفي هذا المقام، تبدو الظاهرة العشوائية مع استمرارها حالة أو مسألة أو قضية كبرى؛ تتحول مع التراكم الشديد واستحكام عقدة الظواهر وإمعانها في التأثير في المجتمع والأفراد (فكرا، وقيما، وسلوكا) إلى جملة من الأزمات الأساسية التي تتحول مع تجاهلها أو إغفالها أو التعتيم عليها (كحالات عشوائية في ذاتها). وفي إطار مناهج وطرائق التعامل معها، تتحول إلى جملة من الأزمات البنيانية والهيكلية في المجتمعات وأنساقها، فتفقد الأنساق ميزتها في الانسجام والتراتب والسواء، وتتحول الى حالة من التشرذم والفوضى والانحراف؛ وتصير العشوائية حالة إنسانية ومجتمعية تتسم بها.
وبهذا، يمكن وصف المجتمع بكونه مجتمعا عشوائيا، تتفاعل فيه حزمة من الظواهر العشوائية التي تراكمت وتمكنت في أنساق المجتمع (المعرفية والإدراكية، والقيمية والأخلاقية، والحركية والسلوكية)، فتصير مع تفاعلاتها طرائق تفكير، وأحوال تسيير، وأساليب تدبير.. كلها تصب في عشوائيات الظواهر المجتمعية والمجتمع العشوائي، فتمكن له ما تمكن، وتصير عشوائية الظواهر من وجودها كـ"هوامش"، أو حالة استثنائية إلى تراكمها في متن الظواهر وأساسياتها وجوهرها ومعظم وسطها والبيئة المجتمعية عامة، فتتحول إلى "متن" في المجتمع بعد أن كانت هامشا، إن صح هذا التعبير.
وتتشابك عشوائية الظواهر من غير اشتباك حقيقي معها، فيقع معظم الناس في حبائلها وشباكها، ويصير التصور المجتمعي المكون لصوره الذهنية معايشا لهذه العشوائية، متفقا مع صورها وأشكالها، وموافقا على كامل مساراتها، فتحدث حالة من حالات التفكير الذى يتسم بحالة من حالات اللامبالاة الشديدة، وتخرج مقولات تتوج حال الظاهرة وتراكمها واستمرارها وانتشارها على قاعدة "دع الأمور تمشى في أعنتها"، أو مقولة حاكمة من مثل "نحن لا نصلح الكون"، ويصير من ينبه إلى هذه الظواهر أو خطورتها "يعيش في كوكب آخر".
مشكلات الإنسان والاجتماع والظواهر المصاحبة لهما طبيعتها الخاصة، فهي تختلف اختلافا كليا عن مشكلات المادة ومقتضياتها، اختلافا لا يمكن معه أن نطبق عليها دائما حلولا تستقى براهينها من الخارج. غالبا ما يحدث هذا في بلادنا، فالحلول وعمليات التطوير التي تُنْصَبُ لها الاحتفالات والمهرجانات و"الموالد"؛ تعبر عن حلول كلها مستفادة من بلاد أخرى مختلفة، فلا تُحدث نفس تلك السياسات عندنا التأثير ذاته الذي لها في أوطانها، مع اختلاف السياقات وعدم توافر المستلزمات الضرورية لاستنباتها كشرط أساسي لإثمارها..
ضمن هذه السياقات، ستكون الحالة دائما وأبدا "السيستم وقع".. هذا السيستم الذي دائما يقع؛ سنحكي طرفا منها في قصة "التابليت والامتحانات ووزير التربية والتعليم في مصر"، حتى يمكن أن نتعرف على الأسباب والعوامل لتلك الحقيقة المرة (السيستم وقع) في مقالنا القادم.