"موقف
حماس واضح كما في الوثيقة السياسية..، عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي، نقطة أول السطر. الآن إذا تحقق البرنامج السياسي الوطني المشترك بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 67، وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين والنازحين إلى أرضهم، فإن موقفنا من "إسرائيل" ومن الاحتلال الإسرائيلي، يقرره الشعب الفلسطيني في تلك اللحظة بحرية كاملة، وفي استفتاء عام لشعبنا في الداخل والخارج، هذا القرار الفلسطيني هو الذي سيحترمه الجميع، وعلى رأسهم حركة "حماس".
جاءت تلك الكلمات على لسان خالد مشعل إجابة على سؤال، في برنامج سباق الأخبار على قناة الجزيرة الفضائية 6 أيار/ مايو الجاري، عن موقف الحركة وما هو وصفها للكيان الإسرائيلي إذا قبل بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 67.
ظهر في النص السابق تعارض بين مقدمة الإجابة التي يرفض فيها السيد مشعل الاعتراف بشرعية الاحتلال وفقاً لما ورد في الوثيقة السياسية، وبين خاتمة الإجابة التي "تحترم" فيها حماس قرار الشعب الفلسطيني إذا قرر في استفتاء عام الاعتراف بشرعية الاحتلال القائم على 78% من أرض فلسطين التاريخية.
هذا التعارض قد يعتبره البعض تكتيكاً في الخطاب، مبنياً على شرطٍ مستحيل على اعتبار أن الاحتلال لن يعترف بدولة فلسطنيية كاملة السيادة، ولن يقبل بأن تكون سيادة الدولة الفلسطينية على كامل حدود الرابع من حزيران/ يونيو 67، ناهيك عن استحالة قبوله بعودة 6 مليون لاجئ فلسطيني إلى الأراضي المحتلة عام 48، لما يُمثله ذلك من تدمير لبنية الدولة الصهيونية القائمة على اليهودية واليهود..، وخير شاهد على ذلك سلوك الاحتلال مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "فتح"، وبالتالي فليس من داعٍ للقلق من تصريحات تَذُر الرماد في العيون، لتخفيف الضغط عن الفلسطينيين وحركة "حماس"، وتهدف لإحراج الخصم ووضع الحجة عليه.
فإذا كان تحليل الواقع يُفضي عملياً إلى استحالة قبول الاحتلال بدولة فلسطينية حسب شروط الوثيقة السياسية، وذلك لاختلال موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني،فإن ذلك يجعل من إعلان "حماس" الآن عن قبولها أو "احترامها" لرأي الشعب الفلسطيني في الاعتراف بشرعية الاحتلال عبر الاستفتاء، حديثاً استباقياً خارج سياق الزمن، وفرضية غير ذي صلة بمعطيات المرحلة الراهنة، هذا أولاً.
ثانياً: إن مجرد الحديث عن إمكانية الاعتراف بشرعية الاحتلال عبر استفتاء عام، علاوة على أنه يتناقض مع مفردات الوثيقة السياسية وبنودها، فإنه يعطي انطباعاً سلبياً لواشنطن وتل ابيب؛ بمعنىأن "حماس" مأزومة وتبحث عن مخرج، وبالتالي يمكن ممارسة المزيد من الضغوط عليها لاستجلاب المزيد من التنازلات.
ثالثاً: إن القبولبفكرة الاعتراف بشرعية الاحتلال عبر الاستفتاء، سيقود القضية الفلسطنيية إلى الهاوية، ويُلقي بها في مهب الريح؛ فالذي يقبل بمبدأ الاستفتاء على الأرض (78% من مساحة فلسطين التاريخية لصالح الكيان والمشروع الصهيوني)، التي تُجسد وطناً للأمة الفلسطينية المتجذرة فيها عبر التاريخ، والتي تُمثل عقيدة لدى المسلمين..، لماذا لا يقبل بمبدأ الاستفتاء أيضاً على القدس، والمسجد الأقصى، وحتى على حق العودة للاجئين الذين من حقهم أيضاً أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم عبر استفتاء حر في الداخل والخارج..؟!
رابعاً: إذا سلّمنا جدلاً أن الاحتلال سيقبل بدولة فلسطينية مُضْطراً وتحت صغط المقاومة، حسبما ورد في الوثيقة السياسية وعلى لسان السيد خالد مشعل، فلماذا الاستفتاء أصلاً، فهل يُعقل أن يُدْعى شعب منتصر على عدوه بالقوة ليتنازل عن أرض آبائه وأجداده؟ إنها دعوة لا تتسق مع سياق التحرير والنصر.
خامساً: إذا توقفنا عند دعوة خالد مشعل للرئيس الأمريكي ترامب، لالتقاط فرصة إصدار الحركة لوثيقتها السياسية، لتقديم مقاربات جديدة تُنصف الشعب الفلسطيني. فإننا نتساءل عن ما هية المقاربة الأمريكية الممكنة والمتوقعة من إدارة جمهورية متطرفة ومنحازة بشكل فظ للاحتلال الإسرائيلي؟ فإذا افترضنا أن هناك مقاربة أمريكية محتملة استجابة لدعوة مشعل، فإنه بالتأكيد لن تتساوق مع ما ورد في الوثيقة السياسية لحماس، ولو تكارمت الإدارة الأمريكية على الفلسطينيين والعرب، وضربت بعرض الحائط جميع التزاماتها الأمنية والسياسية مع الكيان الصهيوني، فإن أي مقاربة جديدة لن تخرق سقف قراري 242 و 338 ، عماد البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة "فتح" التي وصلت إلى ما وصلت إليه نتجية التعويل على المبادرات الأمريكية، فهل هذا هو المنتظر؟!
سادساً: في تصريح السيد خالد مشعل لوكالة قدس برس (5 أيار/مايو الجاري) بشأن إصدار الوثيقة السياسية، أشار إلى أن الوثيقة "تُريح حُلفاءنا وأصدقاءنا، وتُسهل عليهم حمل قضيتنا إلى كل المنابر والمحافل الدولية". والنقاش هنا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار السقف السياسي لأولئك الحلفاء؛ فدولة قطر تعترف بالمبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002) التي تعتمد القرارات الدولية ذات الصلة (242 و 338)وتعترف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي شرط انسحابه من الأراضي العربية المحتلة عام 67، أما تركيا فهي تعترف بشرعية الكيان الإسرائيلي وتقيم علاقات سياسية معه، ولا تُخفي سعيها لدفع حركة "حماس" للانخراط في العملية السياسية على قاعدة الاعتراف بالاحتلال مقابل دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 67، ونستذكر هنا تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في لقاءٍ عقده في مبنى الصحافة الوطني في واشنطن (22آذار/مارس) جاء فيه: "أن بلاده مارست ضغوطاً على حماس لإلقاء سلاحها، والدخول في مفاوضات مع "إسرائيل". فهل ستنجو المساعي الحميدة لتلك الدولفي حمل القضية الفلسطينية إلى المنابر الدولية، من تأثير قناعاتها السياسية ومواقفها البراغماتية؟
نعتقد أن التصريحات السياسية لحماس والتي جاءت عقب إصدار الوثيقة تتعارض مع بنود الوثيقة السياسية وتخالف روح النصوص الواردة فيها..، وهذا يفتح باب التكهنات ويثير التساؤلات الشيطانية عن خلفيات وأهداف القبول مرحلياً بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67 ، رغم دقة المحتوى السياسي للمادة (20) برفض الاعتراف بشرعية الاحتلال؛ فالعبرة بالأفعال أولاً لأن الدساتير والوثائق السياسية على رصانتها وثباتها النسبي، إلا أنها قابلة للتعديل كاستحقاق للواقع وتطوراته السياسية، سلبية كانت أم إيجابية.
وهذا يدفعنا إلى تكرار القول؛ بأن الوثيقة السياسية خرجت إلى العلن بنصوص دقيقة وواضحة المعنى والدلالة في حفاظها على الثوابت الوطنية، ولكن ذلك لا يكفي لقياس المصداقية، فالسلوك السياسي لحركة "حماس" هو المعيار الأهم من المعيار الخطابي الوارد في الوثيقة..، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الغرب وواشنطن التي يُثير الاقتراب منها الريبة عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي.
لا زالت "حماس"تتمتع برصيد كبير من الاحترام والتقدير لدى النخبة والرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، فهي تمثل أملاً في هذه الأمة التي تعاني من المشروع الصهيوني، وأي خطأ يقع من الحركة ولو بغير قصدٍ سيكون له ارتدادات كبيرة على القضية الفلسطينيةوعلى حركة "حماس" نفسها التي تتجاذبها العديد من القوى الإقليمية للاتكاء عليها في تحقيق مصالحها القُطْرية وتسويق نفسها لدى واشنطن عبر البوابة الإسرائيلية المُشْرَعة لعمليات التطبيع المباشر وغير المباشر مع العديد من الأنظمة العربية والإسلامية.