شَغَلت الوثيقة السياسية التي أصدرتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الأول من أيار/مايو الجاري، الجهات الرسمية والشعبية والعديد من المراقبين والمحللين، وانقسمت الآراء بين مؤيد، ومنتقد، وقلق على مستقبل القضية الفلسطينية، خشية دخول الحركة النفق السياسي الذي انزلقت إليه حركة "فتح".
وفي هذا السياق، أعتقد أن الوثيقة السياسية، بنظرة مجردة، خرجت إلى العلن رصينة شكلا ومضمونا، مقارنة بميثاق الحركة الصادر عام 1988؛ فالوثيقة باختصار، أكدت الثوابت الوطنية بدقة لغوية، وقانونية، ووضوح سياسي من مجمل القضايا الدولية والوطنية، وذلك بمعزل عن بعض الآراء التي حاولت التقوّل على الوثيقة بأنها جاءت متأخرة من حيث المُطَابقة والمحاكاة لمواقف حركة "فتح" وبرنامجها السياسي، فالبنود الواردة في الوثيقة لا تُخطئها عين مراقب موضوعي ومحايد.
بل نضيف أن المحتوى السياسي للوثيقة، جاء متطورا مقارنة بميثاق الحركة، لا سيّما لناحية عدم معاداة اليهود كديانة، وإنما العداء للمشروع الصهيوني المحتل بغض النظر عن ديانة المحتل، وفي هذا تصويب شرعي وسياسي. إضافة إلى إيجابية الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية، وأهمية تطويرها كمرجعية قيادية عليا للشعب الفلسطيني على أسس ديموقراطية، ما يُرَسّخ لغة الحوار، والشراكة السياسية، ومفهوم التداول على السلطة بروح التوافق على آليات سِلْميّة ناظمة للتدافع السياسي والاختلاف في الرؤى والبرامج، إضافة إلى مواضيع أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
ما يهمنا هنا، التوقف عند البند رقم (20) الوارد في الوثيقة، الذي أشار إلى "رفض حركة حماس التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، ورفض أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا"، وأضاف: "وبما لا يعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية، فإن الحركة تعتبر إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية مشتركة".
من حيث النص ومدلولاته القانونية، فهو لا يتعارض مع الثوابت الوطنية، رغم إفساحه المجال لخيار التحرير المرحلي دون التنازل أو الاعتراف بالكيان المحتل. ولكن الإشكال الذي يحتاج إلى نقاش سياسي، هو كيف يمكن الحصول على دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الذين تمثل عودتهم عمليا القضاء على المشروع الصهيوني، دون الاعتراف بالاحتلال أو شرعيته على الأراضي المحتلة عام 48؟
القبول بمرحلية التحرير حسب نص الوثيقة، إما يُقصد به التعجيز لقناعة الحركة باستحالة قبول الاحتلال بهذا الطرح، فتكون قد أَعْذَرت نفسها أمام الرسمية العربية، وأَلْقَت الكرة في ملعب الطرف الآخر المؤمن بمسار التسوية السياسية والمفاوضات، وإما أن الحركة فعلا لا مانع لديها من السعي لتحقيق هدف الدولة مرحليا على الأراضي المحتلة عام 67، الأمر الذي يقودنا إلى نقاش السيناريوهات المحتملة، وذلك على النحو التالي:
السيناريو الأول: انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 67 من طرف واحد ودون قيد أو شرط، وذلك بقوة السلاح وتحت ضغط المقاومة، ما يسمح بإقامة الدولة الفلسطينية دون الاعتراف بالكيان المحتل.
السيناريو الثاني: انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 67 عبر التفاوض مع المقاومة وبرعاية دولية، نتيجة استنزاف المقاومة له وزعزعة استقراره لعدة سنوات متتالية. الأمر الذي قد تنشأ عنه هدنة طويلة الأمد، وفقا لشروط أمنية وعسكرية وضمانات مُلزمة لكلا الطرفين، ما قد يحمل في طياته اعترافا ضمنيا بواقع وجود الكيان الصهيوني، وذلك دون الاعتراف القانوني الصريح.
السيناريو الثالث: انسحاب الاحتلال، وإقامة الدولة على حدود العام67 عبر التفاوض وبرعاية دولية، نتيجة الاستنزاف المتبادل بين الاحتلال والمقاومة، وعجز طرفي الصراع عن تحمّل التكاليف المادية والبشرية، ما سيُفضي إلى الاعتراف القانوني السياسي الصريح بين الكيان الصهيوني والدولة الفلسطينية الناشئة، وفقا للقرارات الدولية ذات الصلة.
السيناريو الرابع: لجوء حركة "حماس" إلى طاولة المفاوضات، من باب الضعف والعجز عن تحمل الضغوط الأمنية والسياسية والاقتصادية، ما سيؤدي في أحسن الأحوال إلى إقامة دولة فلسطينية بشروط ومعايير صهيونية، مقابل اعترافها القانوني السياسي الصريح بالكيان الصهيوني على الأراضي المحتلة عام 48 ، على قاعدة أن المهزوم يَخضع للشروط ولا يَفرضها.
السيناريو الخامس: أن تبتعد الحركة عن مسار المفاوضات كليا، وتتركه لمنظمة التحرير، وفقا للصيغة التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني لعام 2006 (أي التزام منظمة التحرير بعرض أية نتائج لمفاوضاتها السياسية مع الكيان الصهيوني، على استفتاء شعبي أو على المجلس الوطني الفلسطيني بعد إعادة انتخابه على أسس ديموقراطية)، الأمر الذي يسمح للحركة أن تتعامل واقعيا مع الإفرازات السياسية، دون أن تكون شريكا في إنتاجها، وهو ما يُعفيها من الاعتراف بشرعية الاحتلال، بصفتها حركة سياسية يحق لها الاعتراض والمعارضة وفقا لأسس العمل الديموقراطي، وهي الصيغة التي تعاملت بها الحركة مع اتفاقيات أوسلو وتوابعها.
في ظل ما تقدم، يمكن القول إن قياس ثبات حركة "حماس" على مواقفها التي وردت في الوثيقة السياسية من عدمه، يخضع لمعيار السلوك والأداء السياسي، وليس مجرد الإعلان عن المواقف السياسية خطابيا فقط.
وعليه، فإن أي جلوس على طاولة المفاوضات مع الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر، إن لم يكن مشفوعا بقوة المقاومة، وقدرتها على ملء الشروط، فإنه سيُفضي حتما إلى التنازل وإلى الاعتراف بالكيان الصهيوني المحتل.