بَنَت إسرائيل واقعها ومستقبلها على محددات وأسس سياسية أمنية داخلية
وخارجية، رسّختها منذ قيامها قبل خمس وسبعين سنة، حتى أصبحت من سمات شخصية الكيان
الإسرائيلي المحتل، ومواطنيه الذين عاشوا على استقرار تلك الصورة، مستبعدين
اهتزازها أو تراجعها، لا سيّما مع تراجع حضور القضية
الفلسطينية إقليمياً ودولياً
باتّساع دائرة التطبيع مع العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة في ظلال
الاتفاقيات "الإبراهيمية" وتحوّلها إلى منصّة سياسية بعيداً عن
استحقاقات القضية الفلسطينية التي تعامل معها
الاحتلال وشركاؤه العرب كأزمة اقتصادية
أمنية اندثرت ملامحها الوطنية والقومية، حتى أضحت بضاعة يمكن المقايضة بها لاكتساب
رضا واشنطن عبر البوابة الإسرائيلية، لتعزيز شرعية هذا النظام أو ذاك.
لقد اتّكأ الاحتلال في استقراره على استمرار الدعم الخارجي الغربي
المفتوح، وخاصة واشنطن التي ورثت مكانة بريطانيا العظمى ودورها بعد الحرب العالمية
الثانية، فتعاملت مع إسرائيل كركيزة استراتيجية في سياساتها الخارجية، فدعمتها
عسكرياً بأفضل الأسلحة وأحدثها، واقتصادياً بمنحة سنوية تقارب الثلاثة مليارات
دولار ناهيك عن الشراكات الاقتصادية، وحمايتها سياسياً وقانونياً في كافة المحافل
والمؤسسات الدولية دون محاسبة أو انتقاد فاعل يمكن أن يؤثّر على دولة إسرائيل
كمدلّلة للمنظومة الغربية.
هذا عزّز قوة إسرائيل، في جيشها وأجهزتها الأمنية التي هزمت جيوشاً
عربية، واقتصادها النشط، ووحدتها الداخلية المستندة إلى قوة الجيش والاقتصاد معاً،
وتحوّلها إلى قلعة محصّنة في نظر خصومها السابقين وأصدقائها الحاليين من أنظمة
عربية هادنتها باعتبارها قدراً لا يُقهر.
تلك الحالة من القوّة المحميّة، صنعت كياناً متغطرساً، متبجحاً،
متعالياً لشعوره بالمتانة الإقليمية والحصانة الدولية؛ فمن يجرؤ على نقد إسرائيل
حتى تنهال عليه الاتهامات بمعاداة السامية وكراهية اليهود، في استدعاء لمظلمة
تاريخية يُجلد بها كل رافضٍ أو منتقد، ليس لإسرائيل فحسب بل لسلوكها حتى لو خالف
القوانين الدولية أو ما أجمعت عليه الأمم من قيم ومعتقدات أخلاقية.
جاء السابع من أكتوبر/ طوفان الأقصى، كزلزال هزّ أركان الكيان
ومؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، وأحدث شرخاً غائراً في يقين المجتمع
الصهيوني، محدثاً علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الكيان واستقراره الذي ترسّخ عبر
عقود خلت.
تجلّت أهم الانكسارات التي تعرّض لها الكيان الإسرائيلي، في العديد
من المسارات التالية:
أولاً ـ فقدان الهيبة والردع، الذي شكّل حصناً عالياً من القوّة
الباعثة على الخوف، باعتبار إسرائيل تعلم كل شيء عبر مجسّاتها الأمنية المنتشرة في
كل مكان، وهي قادرة على توجيه ضربة عسكرية لكل من يفكّر في إيذائها أو التعرّض
لها، وهي تملك الجرأة على محاسبة الآخرين على النوايا قبل الأفعال؛ فكانت معركة
طوفان الأقصى أشبه بمعجزة متخيّلة، أطاحت بأهم حاجز اصناعي ذكي اخترعه البشر للفصل
بين
غزة وفلسطين المحتلة عام 48، ومن ثم تجاوزه لإيقاع هزيمة مدوّية بفرقة غزة،
ذات الصيت والخبرة، في أقل من خمسة ساعات، ناهيك عن فشل الاحتلال وبكل ما أوتي من
وقوة ودعم أمريكي وغربي على تحقيق أي من أهدافه أمام صمود الشعب الفلسطيني
والمقاومة وكتائب القسام في قطاع غزة. وهذا يعدّ سابقة لم تحصل في تاريخ الكيان
منذ نشأته.
جاء السابع من أكتوبر/طوفان الأقصى، كزلزال هزّ أركان الكيان ومؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، وأحدث شرخاً غائراً في يقين المجتمع الصهيوني، محدثاً علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الكيان واستقراره الذي ترسّخ عبر عقود خلت.
ثانياً ـ فقدان الأمن تدريجياً، على مدار نحو 4 أشهر من المعارك
الدائرة في قطاع غزة وعند الحدود الشمالية لفلسطين مع لبنان، حيث نزح نحو نصف
مليون مستوطن من الجنوب والشمال إلى داخل الكيان ومناطق الوسط، وخاصة تل ابيب،
التي تتعرض بين الفينة والأخرى لرشقات صاروخية تنطلق أثناء المعارك البرية
والانتشار الكثيف لسلاح الطيران الحربي والاستطلاع في سماء قطاع غزة، ما شكّل حالة
من الاضطراب النفسي والقلق المتعاظم لدى الجمهور الصهيوني، وتحوّله إلى حالة
مَرَضيّة تعجز عن مواجهتها مؤسسات الصحة النفسية التي اشتكت من خروج الأمر عن السيطرة
بأرقام قياسية منشورة، (وفق المصادر الإسرائيلية؛ تم معالجة 9 آلاف جندي، و300 ألف
إسرائيلي في مؤسسات الصحة النفسية بعد السابع من أكتوبر).
ثالثاً ـ تصدّع الوضع الاقتصادي؛ لا سيّما بعد أن ترك نحو 350 ألف
عامل وموظف مواقعهم في كافة القطاعات الانتاجية وانضموا كقوة احتياط إلى جيش
الاحتلال، ما أثّر على الاقتصاد الكلي من زراعة وصناعة وتكنولوجيا وخدمات..،
بخسارة إجمالية وصلت لنحو 165 مليار دولار في أحدث دراسة، وتكلفة مباشرة للحرب
بقدر 58 مليار دولار في ثلاثة أشهر ونصف الشهر منذ السابع أكتوبر حسب البنك
المركزي الإسرائيلي، ما يشكّل تحدٍ كبير أمام أفراد المجتمع الصهيوني واستقراره
الذي يركن إلى قوّة الاقتصاد والدخل العالي، والسؤال ماذا سيكون مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي
لو استمرت الحرب وتوسّعت؟
رابعاً ـ انهيار السردية والصورة؛ لا سيّما بعدما قبلت محكمة العدل
الدولية النظر في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا باتهامها إسرائيل بارتكاب إبادة
جماعية بحق الشعب الفلسطيني، في وقت شهدت المجتمعات الغربية تحوّلات في
الرأي
العام، فتغيّرت نظرتها للكيان الصهيوني من دولة ديمقراطية متحضّرة إلى كيان محتل
عنصري سادي فاشي يرتكب المجازر ويمارس أسوأ الجرائم بحق الأطفال والمدنيين العزّل،
ما خلق صدمة وتحوّلات عميقة في الوعي العالمي، وخاصة في جيل الشباب، تجاه إسرائيل
المارقة، الأمر الذي أضفى مزيد من الشرعية على النضال الفلسطيني، ونزع الشرعية عن
الاحتلال وممارساته الوحشية.
خامساً ـ تراجع الثقة في الجيش والقلق من المستقبل؛ فلطالما مثّل
الجيش والأجهزة الأمنية قلعة حامية لجمهور قلقٍ مضطرب، لشعوره اللا واعي بسطحية
علاقته بهذه الأرض، فهذا الجيش وهذا الجندي الذي لا يقهر انهار في السابع من
أكتوبر بطريقة "مخزية" لدولة إسرائيل، واستمر في تجرّع كأس الفشل في
قطاع غزة، لا سيّما بعد الفشل الكبير في تحقيق أي من الأهداف التي رفعتها قيادة
الاحتلال ووزارة الحرب من القضاء على حركة حماس، والإفراج عن الأسرى بالقوة
المسلحة، وتأمين محيط قطاع غزة لعودة المستوطنين إلى مستوطناتهم، علاوة على إبداء
الفلسطينيين ومقاومتهم بقيادة كتائب القسام صموداً أسطورياً أذهل القريب والبعيد،
ما عزّز اليقين لدى الفلسطينيين بالتحرير والعودة، وعمّق الشك لدى الصهاينة في
شرعيتهم واستقرارهم البعيد على هذه الأرض.
تلك المعطيات وغيرها من الانكسارات الواقعية شكّلت تحديات جديدة أمام
مجتمع الاحتلال الذي كان يعاني من انقسام سياسي وصراع على هوية الدولة، قبل السابع
من أكتوبر، وبعد صعود اليمين الصهيوني الديني المتطرف، الذي يؤمن بخرافة إسرائيل
الكبرى، وقدرته على فرض سيطرته الكاملة على فلسطين بعد تهجير أهلها منها، ما يعيد
الصراع إلى جذوره، ويؤسّس لصدام وجودي عميق ليس فقط مع الفلسطينيين وحدهم وإنما مع
شعوب أمة عربية إسلامية آخذة في امتلاك زمام المبادرة والتحرك في مواجهة مجتمع
صهيوني نازي تقوده زمرة حالمة متطرفة مقامرة.
إنّ استمرار العدوان على غزة، سيزيد من تعقيدات المشهد في الإقليم
المرشّح لمزيد من التصعيد، الذي سيتحوّل إلى ثقوب سوداء في مستقبل الكيان الصهيوني
الذي لا يملك القدرة على استمرار الصراع والمواجهة المفتوحة، وهي تجربة لا يقوى
عليها مجتمع تعوّد على رفاهية العيش، وجيش تعوّد على حسم معاركه المدبّرة في أيام
وأسابيع معدودة، وهذا بدوره سيؤسّس لموجات هجرة معاكسة في مجتمع قلق مضطرب لا يقوى
على الصمود والثبات في أرض ليست أرضه، في أرض أوهم نفسه بأنها بلا شعب لشعب بلا
أرض، وسيُدرك قريباً أنه عبارة عن نبتة موسمية بلا جذور، وأكذوبة مصطنعة لا تقوى
على الصمود أمام عاصفة التحرير والعودة التي بدأت ترسم معالمها منذ السابع من
أكتوبر، وهذا ما تشير له العديد من الدراسات والاحصائيات العبرية التي تشير إلى
مستويات متقدّمة من انعدام اليقين لدى شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي الذي بدأ
يفكّر بالهجرة إلى أوطانهم الأصلية، بحثاً عن أمانٍ ورغد عيشٍ بدأوا يفقدونه في
كيانهم؛ إسرائيل المحتلة.