شهدت القاهرة نشاطاً لافتاً بزيارة وفد من
حركة حماس برئاسة رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، في وقت سيصل فيه مستشار
الرئيس الأمريكي المعني بالملف الإسرائيلي بريت ماكغورك، في ظل الحديث عن زيارة
وفد إسرائيلي إلى القاهرة للبحث في اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى المتعثّر
بسبب تعنّت الحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو الذي يُطالب بتسليم الأسرى
الإسرائيليين لدى القسّام والمقاومة مقابل تسهيلات إغاثية فقط، مع إصراره على
استمرار العدوان ورفضه انسحاب جيش الاحتلال ورفع الحصار وعودة النازحين وإعادة
الإعمار، حتى تحقيق أهداف
الحرب بالقضاء على حركة حماس والمقاومة
الفلسطينية في
سياق يُفضي واقعياً لإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه وفقاً لسلوكيات ومواقف
حكومة الاحتلال ووزرائها وجيشها.
لقد شهد مسار المفاوضات تعقيدات وتحدّيات
متعدّدة، لا سيّما بعد أن تابعنا مواقف الوسطاء المتباينة تجاه أطراف الصراع من
الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فماجد الأنصاري الناطق باسم الخارجية القطرية ردّ على
مطالبة نتنياهو لقطر بالضغط على حركة حماس للإفراج عن الأسرى، في إشارة إلى أن
الدوحة منحازة لحماس؛ بأن نتنياهو يهرب من أزماته السياسية ليطيل أمد الحرب، مقابل
موقف آخر لوزير الخارجية المصري سامح شكري، هاجم فيه حركة حماس بعد مداخلة لوزيرة
الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في مؤتمر ميونيخ عندما وصفت حماس بالمشكلة
وبأنها لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل، فتساوق معها بالقول أن حماس لا تمثل
الأغلبية التي تنشد السلام وبأنها خارج الإجماع الفلسطيني، وطالب بمحاسبة من
يدعمها، وكأنه يبرر للاحتلال ما يفعل بالفلسطينيين في
غزة، وكأنه يؤيّد عقاب
الفلسطينيين على موقفهم المناهض للاحتلال بالقوّة المشروعة، ما يرسم علامة استفهام
على دور القيادة المصرية كوسيط نزيه ومحايد، بانحياز وزير خارجيتها سامح شكري
للاحتلال وسياساته ضد غزة، وهذا ما يجعل البعض يفسّر سبب استمرار إغلاق معبر رفح
في وجه المساعدات الإنسانية والإغاثية، فوزير خارجية مصر جعل من بلده وفقاً
لتصريحاته، ليس عاجزاً عن إدخال المساعدات، وإنما متفهّماً لرغبة إسرائيل
ومتساوقاً معها في فرض الجوع والعطش على الفلسطينيين الذين يرفضون الإذعان
للاحتلال ويتمسّكون بحقهم في المقاومة المشروعة حتى التحرير والعودة وفقاً للقانون
الدولي.
بالتوازي مع ذلك لا زالت واشنطن راعية
وشريكة للاحتلال في خططه الرامية لتركيع الشعب الفلسطيني، عبر القضاء على معالم
الحياة في قطاع غزة، حتى تهجيرهم من أرضهم، وهي الأفكار التي عمل عليها وزير
الخارجية الأمريكي بلينكن منذ الأسابيع الأولى للعدوان على غزة، ولا زالت واشنطن
تعمل على دعم الاحتلال بالسلاح والمال، وحمايته في المحافل الدولية والتي كان
آخرها استخدام واشنطن لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الجزائري
الداعي لوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية ومنعاً للتهجير، ما يؤكّد أن الإدارة
الأمريكية لا زالت تعطي الضوء الأخضر لإسرائيل للاستمرار في عملياتها العسكرية في
قطاع غزة، حتى القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تميداً لإعادة رسم
مستقبل القطاع والضفة الغربية يما يتناسب مع متطلبات إسرائيل الأمنية والسياسية
وحتى لو اقتضى ذلك مزيداً من القتل والتجويع، وما إبداء واشنطن حرصها إعلامياً على
حماية المدنيين أو تجنيبهم ويلات الحرب إلا ذراً للرماد في العيون ومحاولة لتبرئة
نفسها من تهمة الإبادة الجماعية أمام شرائح واسعة من المجتمع الأمريكي والأوروبي
الغاضب من تلك الممارسات المشينة.
في مقابل الموقف الأمريكي المنحاز، يبرز ضعف
الموقف العربي عموماً أو تواطؤ بعض أنظمته مع الاحتلال للقضاء على المقاومة
ولِكَيْ وعي الشعب الفلسطيني وإحباطه، لألا يفكّر في الثورة أو في الخروج عمّا
ترسمه بعض الأنظمة العربية المطبّعة مع الاحتلال، والتي ترى فيما يجري في غزة
تهديداً لاستقرارها عبر تأثيره على
الرأي العام العربي وتحريضه للوقوف ضد إسرائيل
والسياسات الأمريكية المنحازة للاحتلال، ما يضع الأنظمة العربية الصديقة لإسرائيل
والسائرة في فلك الولايات المتحدة أمام مأزق لا تريده ولا ترغبه داخلياً وخارجياً.
إذا فشل الوسطاء في وقف العدوان، وانسحاب جيش الاحتلال، ورفع الحصار عن قطاع غزة وإطلاق سراح الأسرى المتبادل خلال الأيام القادمة، فإن التصعيد سيأخذ منحى خطيراً، منحى وجودياً في تاريخ الصراع مع الاحتلال، ما يضع الجميع أمام معادلة نكون أو لا نكون، وهذا لن يقف أثره على قطاع غزة بل سينسحب على الضفة الغربية والقدس ومستقبل القضية الفلسطينية
صحيح أن مواقف الدول العربية في عمومها تبدو
مع الشعب الفلسطيني، ولكن من الصحيح أيضاً أن تلك المواقف على أهميتها ليس لها
رصيد واقعي ولا مصداقية على الأرض، ناهيك عن أن مواقف بعض الدول في الملف الإنساني
والإغاثي لا يوجد له تفسير سوى التساوق مع الإرادة الأمريكية الإسرائيلية إمّا
طواعية وإما خوفاً من ردّات فعلهما، بما لا يتناسب مع موجبات العلاقة واستدامة
الحكم والسلطة لبعض الأنظمة التي ترى أن سلطتها لا تدوم ولا تستقر إلا برضى واشنطن
عبر البوابة الإسرائيلية.
مع عظم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، تبدو
المواقف الإقليمية والدولية الإيجابية خطابياً، عاجزة وغير قادرة على تجاوز
الإرادة الأمريكية التي لا زالت تمنح الاحتلال غطاءاً مفتوحاً ضد قطاع غزة، مع
تحفظها طبعاً على الحرب الإقليمية التي لها سياقات مختلفة، تتعلق بالسياسة
الخارجية لواشنطن بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن لدى إسرائيل الفرصة للاستمرار في
خيارها العسكري لتحقيق أهدافها الاستراتيجية التي تتجاوز فكرة إطلاق سراح الأسرى
الإسرائيليين، للانتقال إلى فكرة القضاء على حركة حماس والمقاومة وجودياً، لتتمكن
من إعادة رسم علاقتها بالضفة والقطاع على قاعدة ضم الأراضي سيادياً لإسرائيل مع
إعادة ترتيب الأوضاع المدنية للفلسطينيين عبر سلطة مدنية مُصنّعة أو من خلال تطوير
السلطة الفلسطينية في رام الله كما ترغب واشنطن لتكون سلطة مدنية تحت السيادة
الإسرائيلية.
هذا السياق الرسمي المنحاز للاحتلال أو
الصامت على فعله وجرائمه، يجعل فكرة المفاوضات عبر الوسطاء للوصول إلى وقف للعدوان
وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، وعودة النازحين وإعادة الإعمار ورفع الحصار،
كبيئة ومدخل للافراج عن الأسرى الجنود والضباط لدى المقاومة، مجرد أفكار ومطالب
غير واقعية في نظر الاحتلال، مع أنها حقوق طبيعية وليست اشتراطات سياسية، وهذا ما
أفصح عنه وزير المالية سموتريتش بقوله إن القضاء على حماس أهم من الافراج عن
الأسرى الجنود والضباط لديها، بمعنى أن اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة بنيامين
نتنياهو لديه أفكاراً سياسية إديولوجية أبعد من فكرة معالجة ملف الأسرى وصولاً إلى
فكرة القضاء على الفلسطينيين ومشروعهم الوطني وليس القضاء على حماس فقط، وهذا ما
صرّح به نتنياهو برفضه فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، واعتبارها على
لسانه و على لسان عدد كبير من وزراء حكومته، تهديداً لأمن ووجود دولة إسرائيل.
تلك السياقات تعقّد إمكانية التوصّل إلى وقف
نهائي لإطلاق النار، وتجعل من التصعيد خياراً راجحاً على ما سواه، ولو أنه أي
التصعيد قد يأخذ مسارات شكلية تراعي بعض مطالب واشنطن المتعلقة بالإغاثة أو تقليل
أعداد القتلى في المدنيين، لتخفيف حدة الضغوط الدولية والرأي العام، وهذا المشهد
قد ينسحب إلى شهر رمضان وما بعده، طالما أن الشعوب العربية والإسلامية يقتصر
تحركها موسمياً على التظاهر السلمي كل اسبوع أو أسبوعين، وبناءاً عليه فقد تبنّي
رئيس وزراء الاحتلال دعوة بن غفير لمنع الفلسطينيين في الضفة من الوصول إلى المسجد
الأقصى وتقليص وصول الفلسطينيين من القدس والـ 48 إليه أيضاً، كاستعداد مسبق لمنع
التصعيد الفلسطيني في شهر رمضان انطلاقاً من المسجد الأقصى المحرّك الوطني والديني
في وجدان الفلسطينيين.
وإذا فشل الوسطاء في وقف العدوان، وانسحاب
جيش الاحتلال، ورفع الحصار عن قطاع غزة وإطلاق سراح الأسرى المتبادل خلال الأيام
القادمة، فإن التصعيد سيأخذ منحى خطيراً، منحى وجودياً في تاريخ الصراع مع
الاحتلال، ما يضع الجميع أمام معادلة نكون أو لا نكون، وهذا لن يقف أثره على قطاع
غزة بل سينسحب على الضفة الغربية والقدس ومستقبل القضية الفلسطينية، وصولاً إلى
استهداف مواقع قوى المقاومة ووجودها في أراضيها وبلدانها من لبنان إلى اليمن، ما
يضع الجميع أمام مرحلة فاصلة، المنتصر فيها سيكون له اليد العليا في رسم مستقبل
المنطقة وغَدِها.