اتّسمت علاقة
الرئيس بايدن برئيس وزراء الاحتلال
نتنياهو طوال الفترة الماضية، بالحَذَر وعدم
القبول من قبل الطرفين لعضهما البعض، فنتنياهو لم يتلق دعوة من البيت الأبيض طوال
فترة رئاسته لحكومة اليمين المتطرف قبل السابع من /تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في
الوقت الذي اتّهم فيه الأخير إدارة الرئيس بايدن بدعمها المعارضة
الإسرائيلية
والمتظاهرين المناهضين لحكومته وسياساتها الرامية إلى تحويل هوية الدولة من دولة
يهودية علمانية إلى دولة يهودية دينية، إضافة إلى الملف القضائي وما عرف
بقانون/تشريع المعقولية، الساعي للحد من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا
ودورها كمحكمة دستورية تنظر في معقولية التشريعات البرلمانية.
هذا الاحتدام في
العلاقة، تجاوزه الرئيس بايدن وإدارته بعد معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر، التي نُظِر إليها على أنها تهديد لكيان دولة إسرائيل، المحمية من
واشنطن والمنظومة الغربية، ما أدى إلى تجاوز حالة الجفاء في العلاقة ومسارعة بايدن
وإدارته إلى إعلان التضامن والدعم المطلق لإسرائيل وحكومتها وإعلانها الحرب على
حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع
غزة، إنقاذا لإسرائيل من مأزقها الاستراتيجي.
أصبحت تشكل عبئا أخلاقيا على واشنطن التي ظنّت بأن العدوان على غزة لن يتجاوز الأسابيع المعدودة، فاندفعت بغير رشد وعقلانية بالتماهي مع المتطرفين الصهاينة الذين كانت ولا تزال تحذر من رعونتهم السياسية، وهو ما أشار إليه الرئيس بايدن في خطابه قبل شهر بقوله إن استمرار الحرب يؤثر على رصيد واشنطن الأخلاقي أمام العالم، ويعرّض مستقبل الجمهور الإسرائيلي للخطر
في هذا السياق
ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر؛ توفّر إدارة الرئيس بايدن للاحتلال دعما سياسيا مباشرا
وفي المحافل الدولية، خاصة باستخدام واشنطن حقها في الاعتراض على قرارات مجلس
الأمن (الفيتو) المتعلقة بوقف العدوان على غزة، ناهيك عن الدعم الإعلامي والمالي
والعسكري المفتوح والذي أفضى لارتكاب الاحتلال مجازر وجرائم حرب وجرائم ضد
الإنسانية؛ إلى حد الوصف بارتكابه إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وهي
التهمة التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية بناء على دعوى رفعتها إليها دولة جنوب أفريقيا
المحترمة، والتي قال زعيمها التاريخي نيلسون مانديلا إن حرية جنوب أفريقيا ستبقى
ناقصة دون حرية الشعب الفلسطيني.
إسرائيل وقيادتها
المتطرفة بزعامة نتنياهو وبعد فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة (القضاء على حماس
والمقاومة، وتحرير الأسرى الجنود والضباط لدى كتائب القسام، وتأمين عودة
المستوطنين إلى غلاف غزة)، وقتل وجرح نحو 90 ألفا من الفلسطينيين، بنسبة 4 في
المئة من السكان، وتدميرها 70 في المئة من المساكن والبنى التحتية في قطاع غزة،
أصبحت تشكل عبئا أخلاقيا على واشنطن التي ظنّت بأن العدوان على غزة لن يتجاوز
الأسابيع المعدودة، فاندفعت بغير رشد وعقلانية بالتماهي مع المتطرفين الصهاينة
الذين كانت ولا تزال تحذر من رعونتهم السياسية، وهو ما أشار إليه الرئيس بايدن في
خطابه قبل شهر بقوله إن استمرار الحرب يؤثر على رصيد واشنطن الأخلاقي أمام العالم،
ويعرّض مستقبل الجمهور الإسرائيلي للخطر.
إضافة إلى ذلك،
فإن واشنطن تخشى من تداعيات استمرار العدوان على غزة، واندفاع تل أبيب إلى توسيع
دائرة الاشتباك المسلّح خارج حدود فلسطين باتجاه لبنان واليمن والإقليم، دون إنجاز
يُذكر. وخشيتها تنبع من تحديين أساسيين:
التحدي الأوّل:
فشل إسرائيل عسكريا، وقتل المزيد من المدنيين سيؤثر سلبا على حظوظ الرئيس بايدن
والحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، لا
سيّما مع توسّع دائرة رفض الشعب الأمريكي، وخاصة الشباب والديمقراطيين الليبراليين
والجاليات العربية في الولايات المتأرجحة، لسياسات الإدارة الأمريكية ودعمها
المفتوح للعدوان الإسرائيلي على غزة وقتل الأطفال والمدنيين العزّل، وفي ذلك كثير
من التفاصيل التي لا يتسع المقال لذكرها.
التحدّي الثاني:
خشية واشنطن من تورّطها في النزاع الجاري في المنطقة إذا استدام وتوسّع، والذي
يعني استنزافها وإشغالها عن الاهتمام بمواجهة الصين الصاعدة، وروسيا الطامحة في
التوسّع غربا في أوكرانيا، ومن ثم التأثير على دور واشنطن وقدرتها على السيطرة
والتحكّم عالميا.
السلوك اللا مبالي
للاحتلال الناتج عن الغطرسة وفائض القوة والشعور بالحصانة من العقاب، أثار غضب
الرأي العام العالمي ضد الاحتلال وواشنطن الداعمة له، ووسّع من دائرة الرفض لعدوان
إسرائيل على الشعب الفلسطيني، حتى أفضى إلى تقدّم دولة جنوب أفريقيا بدعوى أمام
محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني
في قطاع غزة، وقدّمت بين يدي المحكمة قرائن قوية شملت مواقف وتصريحات للساسة
الإسرائيليين، من رئيس الدولة إلى رئيس الوزراء إلى العديد من الوزراء والمسؤولين،
يُحرّضون فيها على قتل وتهجير الفلسطينيين، إضافة إلى حقائق وأرقام تشير إلى توفّر
النيّة لدى الاحتلال وجيشه عبر الممارسة، بارتكاب إبادة جماعية.
بنيامين نتنياهو سيعْمَد إلى ابتزاز الإدارة الأمريكية وحاجتها لدعم اللوبيات الصهيونية للفوز في السباق الرئاسي؛ فكلما استمر العدوان على غزة كلما اقتربنا من الانتخابات وازدادت حاجة الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي لدعم اللوبيات الصهيونية الأمريكية، ما سيساعد بنيامين نتنياهو على التأثير في قرارات الرئيس بايدن بشأن استمرار تأييده للعدوان على غزة، ولسيناريو توسّع الاشتباك العسكري مع حزب الله أو في الإقليم
القضية المرفوعة
أمام محكمة العدل الدولية، والتي أيّدتها العديد من الدول والمنظمات المتخصّصة،
تشكّل ذروة الاحتجاج الدولي على سلوكيات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني،
وإذا أصدرت المحكمة قرارا احترازيا بوقف العدوان وكافة الإجراءات التي تُفضي إلى
إبادة جماعية في غزة، فهذا سيشكّل ضربة للتحالف الصهيوأمريكي، وسيعدّ إشارة
ومقدّمة لاحتمالية الحكم على إسرائيل بارتكابها إبادة جماعية.
واشنطن لم تكن
تعتقد أو تفكّر، ولا الاحتلال الإسرائيلي، بأن المشهد سيذهب بهما إلى هذا الحد من
السقوط الأخلاقي أمام العالم، فمجرّد رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب
إسرائيل إبادة جماعية، وبغض النظر عن النتيجة، يشكّل سقوطا أخلاقيا وسياسيا،
وانهيارا للسردية الإسرائيلية الاحتلالية، التي استغلت رواية المحرقة التاريخية
للتغطية على جرائمها واقترافها محرقة أشد وأقسى بحق الشعب الفلسطيني والأطفال
والمدنيين العزّل.
وإذا كان ذلك
المشهد لم يردع الاحتلال الإسرائيلي ويوقفه عن ظلمه، فمن غير المستبعد أن يستمر
الاحتلال في غيّه، طالما هو مطمئن لدعم واشنطن، وسيذهب إلى رفض المواقف الدولية
المناهضة لجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، وحتى مهاجمة محكمة العدل الدولية التي يمكن
أن تحكم بوقف احترازي للعدوان على غزّة إلى حين النظر في دعوى
الإبادة الجماعية.
بنيامين نتنياهو
سيعْمَد إلى ابتزاز الإدارة الأمريكية وحاجتها لدعم اللوبيات الصهيونية للفوز في
السباق الرئاسي؛ فكلما استمر العدوان على غزة كلما اقتربنا من الانتخابات وازدادت
حاجة الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي لدعم اللوبيات الصهيونية الأمريكية، ما
سيساعد بنيامين نتنياهو على التأثير في قرارات الرئيس بايدن بشأن استمرار تأييده
للعدوان على غزة، ولسيناريو توسّع الاشتباك العسكري مع حزب الله أو في الإقليم،
إذا قرّر الاحتلال ذلك.
التطرف
الإسرائيلي ومقامرة بنيامين نتنياهو السياسية العسكرية الرامية لحفظ مستقبله
السياسي بعد فشله في غزة، قد تؤدي إلى مزيد من التراجع في شعبية الحزب الديمقراطي
والرئيس بايدن في السباق الانتخابي، إلا أن ذلك لا يشكل قلقا لليمين الصهيوني
المتطرف بقيادة نتنياهو الذي لا يرى في بقاء بايدن في الحكم أولوية له، ويفضل عليه
رئيسا جمهوريا مثل ترامب.
المشهد يبدو أكثر تعقيدا كلما تقادم القتال وتوسّع الصراع؛ وإذا كان اليوم فلسطينيا إسرائيليا، فغدا قد يصبح عربيا إسرائيليا، ما سيجر المنطقة إلى بؤرة ساخنة، تستدعي مزيدا من التدخلات الدولية المتناقضة في مصالحها، ما يجعل المسار مفتوحا على احتمالات عدّة ليس أقلها خسارة الاحتلال الإسرائيلي المعركة على وقع تعاظم الأعداء من الخارج، وتعاظم الخلافات والانقسامات الداخلية
تعويل الحزبين
الجمهوري والديمقراطي على دعم اللوبيات الصهيونية إعلاميا وماليا في الانتخابات
الأمريكية، يُشعر نتنياهو وقيادة الاحتلال الإسرائيلي المتطرفة بالارتياح
والاطمئنان لاستمرار الدعم الأمريكي، ولكن يبقى السؤال: ماذا سيكون واقع ومستقبل إسرائيل
في مواجهة المقاومة الفلسطينية والعربية إن استمر وتوسّع الصراع، بعد أن فقدت
إسرائيل شرعيتها الأخلاقية وسرديتها التاريخية، وانهارت قوة ردعها في السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر وخلال معاركها الجارية في قطاع غزة؟
الاتكاء على لغة
الابتزاز قد يكون مجديا في سياقات تكتيكية بين إسرائيل وأمريكا، ولكن قد يصبح محل
شك إذا استمر فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في ظل استمرار استنزافها
الذي لا تقوى عليه لفترة طويلة، وتعاظم عزلتها الدولية، وتراجع مصداقية واشنطن
التي بدأت تخسر رصيدها الأخلاقي على المستوى الدولي.
المشهد يبدو أكثر
تعقيدا كلما تقادم القتال وتوسّع الصراع؛ وإذا كان اليوم فلسطينيا إسرائيليا، فغدا
قد يصبح عربيا إسرائيليا، ما سيجر المنطقة إلى بؤرة ساخنة، تستدعي مزيدا من
التدخلات الدولية المتناقضة في مصالحها، ما يجعل المسار مفتوحا على احتمالات عدّة
ليس أقلها خسارة الاحتلال الإسرائيلي المعركة على وقع تعاظم الأعداء من الخارج،
وتعاظم الخلافات والانقسامات الداخلية بين مكونات المجتمع الصهيوني، لا سيّما مع
تزايد الشعور بانعدام اليقين والخوف من المستقبل.