كان حدث مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 حدثا في غاية الأهمية.
وكانت تلك الانتخابات فريدة من نوعها في تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية لأنها كانت تقريبا الانتخابات الوحيدة التي تتسم بالنزاهة والحرية، ولم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد.
أسفرت الانتخابات عن فوز 22 من المرشحين الستة والعشرين الذين تقدمت بهم الجماعة، يضاف إليهم ما لا يقل عن عشرة نواب يحسبون بشكل أو بآخر على التيار الإسلامي العريض في البلاد.
اختار الإخوان زعيما لكتلتهم النيابية الدكتور عبد اللطيف عربيات، الذي لم أكن قد التقيته من قبل، ولم أعرف عنه الكثير، وبالتأكيد لم يكن يعرفني ولا يسمع بي.
وكان الفضل في وصلنا ببعض للأستاذ زياد أبو غنيمة رحمه الله، الذي كنت قد التقيته صدفة في لندن بعد حدث الانتخابات المشار إليه، فلما عاد إلى عمان وعلم برغبة الإخوان في إنشاء مكتب لكتلتهم النيابية، بادر إلى ترشيحي لدى الدكتور عبد اللطيف عربيات لأكون مديرا لذلك المكتب، لما توسم في من قدرات أهمها ما اجتمع لدي من خبرة في مجال الإعلام والعلاقات العامة، ومهارات الترجمة من العربية إلى الإنجليزية، وبالعكس.
اتصل بي د. عبد اللطيف وطلب مقابلتي، واتفقنا مباشرة، والتحقت به مديرا للمكتب الذي أسسناه وأثثناه معا.
قصة تجربتي في العمل مع الكتلة النيابية للإخوان المسلمين طويلة، وقد يتسنى سردها في فرصة أخرى، إلا أن ما يهمني هنا هو أن تطورات الأحداث والتفاعلات داخل الجماعة، اضطرتني بعد ما يقرب من عامين إلى الاستقالة، والسفر إلى لندن لاستكمال الدراسة العليا.
وجاء ذلك بعد أن تأسست جبهة العمل الإسلامي، التي كان من المفروض أن تكون الواجهة السياسية للإخوان، والحزب الذي يخوض معترك العمل السياسي نيابة عنهم.
لم يكتب لمشروع الجبهة أدنى درجات التوفيق، فقد تراجع الانفتاح السياسي في البلاد، وهمشت الديمقراطية، وتوجه النظام نحو ضبط الانتخابات من خلال تشريعات تحول دون حصول أي حزب سياسي على عدد من المقاعد يخل بالتوازنات التي أراد النظام الملكي الحفاظ عليها.
إلا أن هذه الأسباب القاهرة لم تكن الوحيدة التي أدت إلى فشل مشروع الجبهة، بل كانت الخلافات الداخلية عامل تقويض مهم، خاصة فيما يتعلق بالصلاحيات والمرجعيات، ورغبة البعض في إبقاء الجبهة خاضعة لصانع القرار في "المركز العام" للإخوان.
تركت كل ذلك، وانتقلت إلى بريطانيا، حيث عكفت على إعداد أطروحة في موضوع الإسلام والديمقراطية والعقبات التي تعترض التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، مسلطا الضوء على تجربة حركة النهضة التونسية، وفكر راشد الغنوشي كحالة دراسية.
عدت بعد سنوات إلى الأردن، وذهبت لزيارة مكتب جبهة العمل الإسلامي، الذي انبثق عن مكتب نواب الحركة الإسلامية.
كانت سمات التردي والتراجع بادية في كل شيء، ولا أدل عليها من أن الشخص الذي كان حينها مكلفا بإدارة المكتب -أي يشغل نفس الوظيفة التي كنت أول من شغلها- هو الشاب الذي أرسله إلى الإخوان عندما كنت مديرا لأكلفه بمهام إعداد وتقديم القهوة والشاي لمن يتردد علينا من النواب أو الضيوف.
لست أقلل من قيمة الأخ، ولعله عند الله خير مني وأكرم، ولكن فرقا هائلا وبونا شاسعا يفصل بين مؤهلات من يطلب منه إدارة مكتب حزب سياسي ومؤهلات من يطلب منه تقديم الضيافة لرواد ذلك المكتب.
تذكرت هذه القصة وأنا أتأمل فيما آلت إليه أحوال مكتب الإخوان المسلمين في منطقة كريكلوود في لندن، ذلك المكتب الذي كان في الأساس بمثابة مقر لأمانة عامة لما كان يعرف بالتنظيم الدولي، مهمته بالدرجة الأولى الترتيب لاجتماعات التنظيم، من حيث إجراءات سفر واستقبال المندوبين، وما يتعلق بأمور إقامتهم وضيافتهم أثناء وجودهم في لندن أو حيث يعقد اللقاء.
لم يكن يصدر عن هذا المكتب إلا النزر القليل مما يمكن أن يهتم له أحد في وسائل الإعلام أو الوسط السياسي.
وما صدرت عنه فيما بعد من نشرة مطبوعة ثم إلكترونية تعرف باسم "رسالة الإخوان" كانت جهدا متواضعا، لا يضر وإن كانت فائدته محدودة، ولعل بعضنا كان يعتبره اجتهادا أدبيا مشكورا، رغم ضعفه وعدم اكتراث كثير من الناس به، لمن يشكلون طاقم مكتب الخدمات هذا.
جاءت أحداث الربيع العربي، ثم الثورة المضادة، ثم الأزمة الحادة داخل جماعة الإخوان المسلمين، فإذا بمن كانت مهمته يوما ما ترتيب الضيافة وإجراءات السفر والاستقبال يتصدر المشهد، ويصدر القرارات الحاسمة الفاصلة، وينشر البيانات ويوجه الرسائل، وينطق باسم أكبر جماعة إسلامية إصلاحية عرفها التاريخ المعاصر، رغم أن أوجه القصور في قدراته ومؤهلاته لا يتسع المجال هنا لسردها.
ولعل هذا ما ساهم مساهمة فاعلة في تعميق الصدع داخل الجماعة، وفي إطلاق العنان للشامتين والمتربصين بالإخوان، بل وشجع أعدادا من المحبطين واليائسين على اللجوء إلى معاول الهدم ليأتوا بها على ما تبقى من احترام وقيمة وتقدير لهذه الحركة المنتشرة حول العالم.
ولقد كانت الرسالة التي وجهت إلى مؤتمر القمة العربية في عمان وما تلاها من تصريحات وبيانات ركيكة ومتهافتة ومنبطحة ومناقضة لفكر الجماعة ومنهجها القشة التي قصمت ظهر البعير، وكشفت عورة مكتب كريكلوود ومحدودية قدرات وتواضع مؤهلات القائمين عليه.
لقد قامت جماعة الإخوان المسلمين على فكرة، وما من شك في أن الفكرة نبيلة وجميلة وطموحة، وهي أن نهضة أمتنا وصلاح حالها لا يكون إلا بالإسلام، وأن إصلاح أحوالنا يبدأ بالفرد فالأسرة فالمجتمع فالدولة، وأن عملية الإصلاح داخل مجتمعاتنا لا تتم إلا بنهج سلمي طويل النفس وطويل المدى، ينتهي بإرادة الله إلى إعادة الاعتبار لشرع الله تعالى وللحكم الشوري الذي أسست له الخلافة الراشدة.
إلا أن الفكرة اليوم لا تجد من يخدمها كما ينبغي بسبب ما تعرضت له الجماعة من ضربات قاصمة متتالية، وما آلت إليه أوضاعها من أحوال من التشظي والتشاحن والتدابر والتنافس بين أبناء الجماعة الواحدة. والأمر يتطلب إلى علاج سريع، وإلى جرأة وإقدام.
لو كنت صاحب قرار في جماعة الإخوان المسلمين لأمرت بادئ ذي بدء بما يلي:
1) إغلاق مكتب كريكلوود في لندن، وإعفاء جميع من فيه من أي مهام كلفوا بها من قبل، أو نصبوا أنفسهم للقيام بها من بعد.
2) إلغاء القرارات كافة التي صدرت عن أي جهة تدعي النطق باسم القيادة، ونجم عنها فصل أو تجميد أو غير ذلك من العقوبات بحق أي عضو من أعضاء الجماعة منذ الانقلاب العسكري الغاشم في مصر في تموز/ يوليو 2013.
3) حظر احتكار أي عمل أو نشاط أو مبادرة أو جهد يخدم الفكرة التي قامت من أجلها الجماعة، والإعلان بأن هذه الأعمال أو النشاطات أو المبادرات أو الجهود مرحب بها فرديا وجماعيا وفي كل الميادين والساحات، ومن يوفق تجني الجماعة ثمار نجاحه ومن يخفق فلن يضرها إخفاقه، ولكل مجتهد نصيب.
4) الدعوة إلى البدء بإجراءات عملية لرأب الصدع ولم الشمل ورص الصفوف حتى تستعيد الجماعة عافيتها وتستأنف جهادها وتؤدي رسالتها.