اشتدت على
المسلمين المحن في كل مكان، فلا تكاد تجد بقعة يسكنها مسلمون تخلو من مظلمة. ففي فلسطين احتلال غاشم، ما لبث منذ بدأ قبل ما يقرب من خمسة وسبعين عاماً يقهر الفلسطينيين بشتى وسائل التنكيل، يصادر أراضيهم، ويخرجهم من أوطانهم، ويذبح أبناءهم، وينتهك حرماتهم. وفي كل أرجاء العالم العربي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، يعيش الناس في ظل أنظمة مستبدة، لا ترقب في مواطن إلا ولا ذمة، تحرم الناس من حق الحياة الكريمة، وتصادر حرياتهم في التعبير والتجمع والسفر، بعد أن حولت كل سلطة حاكمة البلاد إلى مزرعة خاصة، وكل من فيها من عباد الله أجراء يُمتهنون صبح مساء، ناهيك عن التدخلات الخارجية، بل والاحتلالات الفعلية في بعض الحالات، بتنسيق مع الحكام الفاسدين، فيتعاظم القهر ويشتد البلاء. وفي غير بلاد العرب، حيث تعيش أقليات مسلمة كبيرة، كما في الصين والهند وماينمار، يتعرض المسلمون لحملات قهر يراد منها تصفية وجودهم أو طمس هويتهم، وترتكب في سبيل ذلك بحقهم جرائم يندى لها جبين الإنسانية. ولئن تفاوتت المظالم في نظر من يراقب من بعيد، إلا أن كل صاحب مظلمة يرى محنته هي الأشد والأولى باهتمامه، وهذا بلا شك من حقه.
ثم، ما من مسلم مقهور إلا ويتوقع من إخوانه حول العالم أكثر من مجرد التعاطف والتضامن، فهو يتوقع النصرة، أوليس "المسلم أخو المسلم". أوليس "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض". أوليس "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؟
يدرك أصحاب المظلمات أن إخوانهم في كرب أيضاً ولذلك يعذرونهم إن حالت ظروفهم القاسية بينهم وبين المسارعة إلى نجدتهم. ولكنهم لا يعذرونهم أبداً إذا صدر عنهم ما يفهم منه التواطؤ مع جلاديهم. وهنا تكمن المشكلة، إذ يختلف الناس في تقدير الأمور، وحين يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية سرعان ما تتباين أحكامهم. أذكر على سبيل المثال أنه عندما زار وفد من حركة المقاومة الإسلامية
حماس موسكو بدعوة رسمية من الحكومة الروسية، وذلك في عام 2006 بعد فوز الحركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، صادفت في أحد الملتقيات عدداً من الإسلاميين
الشيشان، وسمعتهم يعربون عن احتجاجهم الشديد ضد حماس، إذ كيف يمكن لحركة إسلامية أن تصافح سفاح روسيا الذي كان يعيث في الشيشان قتلاً وتدميراً منذ أن اجتاحها في خريف عام 1999، كيف يمكن لحركة مرجعيتها المعلنة هي الإسلام أن تكون لها علاقات مع نظام يحارب الإسلام.
لكن احتجاج الشيشانيين آنذاك كان خافتاً وخجولاً إذا ما قورن باحتجاج
السوريين بعد سنين رداً على العلاقات بين حماس والنظام في موسكو أو النظام في طهران، ثم من بعد ذلك على توجه الحركة نحو التصالح مع النظام السوري، الذي كانت في بداية الثورة السورية قد قررت النأي بنفسها عنه، بل واتخذت خطوة جريئة أشاد بها أنصار الثورات العربية في كل مكان، وتمثلت بمغادرة سوريا والزهد بكل ما كانت تحصل عليه فيها من دعم وخدمات، باعتبار أن انحيازها ينبغي أن يكون إلى جانب الشعب السوري وثورته لا إلى جانب النظام الذي رفض الاستجابة لمطالب الناس بالإصلاح بل وراح يسومهم سوء العذاب.
لا تجد الحركات الإسلامية المختلفة صعوبة في إيجاد المبررات للدخول في تفاهمات أو تحالفات مع أعداء إخوانها، ولعل المشترك في كل التبريرات هو التذرع بالمظلمة المحلية أو بالمصلحة المتوخاة
والأمر لا يقتصر على الشيشان والسوريين، ولا على حركة حماس، بل باتت تلك ظاهرة متكررة في حالة العديد من الحركات الإسلامية وفي مختلف الأقطار. فبعض فصائل الثورة السورية لم تجد بداً من التواصل مع أنظمة السعودية والإمارات طلباً للمعونة، رغم أن هذين البلدين هما من قادا الثورة المضادة وأنفقا المليارات لإجهاض ثورات الربيع العربي وتمويل الانقلاب العسكري الذي أسقط الرئيس المنتخب ديمقراطياً في مصر محمد مرسي رحمه الله. ثم شهدنا كيف لاذ التجمع اليمني للإصلاح بالسعودية رجاء أن تساعده في التصدي للحوثيين، وذلك بالرغم من أن النظام في الرياض وشريكه نظام أبو ظبي هما من مكن الحوثيين أصلاً واستخدماهم أداة لضرب الثورة في اليمن، ثم ما لبثوا أن قلبوا عليهما الطاولة وفتحوا الباب في اليمن على مصراعيه لحليفتهم وعدوتهما اللدود إيران. وفي أقصى المغرب العربي، قبلت حكومة "صاحب الجلالة" التي كان يترأسها حزب العدالة والتنمية، المحسوب على الحركة الإسلامية، بأن تكون المبرم لاتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني والموقع عليه، بحجة تحقيق مكسب (متوهم) للمغرب يتمثل في اعتراف إدارة ترامب في الولايات المتحدة بسيادة المملكة المغربية على الصحراء.
ولا تجد الحركات الإسلامية المختلفة صعوبة في إيجاد المبررات للدخول في تفاهمات أو تحالفات مع أعداء إخوانها، ولعل المشترك في كل التبريرات هو التذرع بالمظلمة المحلية أو بالمصلحة المتوخاة، حتى غدت بعض السياسات والسلوكيات ممارسات صارخة للبراغماتية أو النفعية.
لا تكمن المشكلة في العلاقات، ففي السياسة الدولية لا وجود لقطيعة تامة، ولا تقوم العلاقات بناء على حب أو على بغض وإنما على حسبة مصالح. إلا أن المشكلة، وخاصة في حالة الحركات العقائدية، وبالذات الإسلامية، تكمن في التضحية بالقيم والمبادئ في سبيل مصلحة مرجوة أو متوهمة أو بحجة وجود مظلمة مثل القهر أو الاحتلال أو الحصار.
وأخطر ما يلاحظ في سلوكيات بعض قيادات الحركات الإسلامية في العلاقات الدولية أنهم إذ ينهمكون في هذا النشاط، ويسعون لبناء الجسور وإبرام التفاهمات، ينسون أو يتجاهلون الغاية التي من أجلها قامت حركاتهم في المقام الأول. صحيح أن هذه الحركات أنشأت وأدارت عبر تاريخها مشاريع خيرية وخدمية لتخفيف معاناة الناس أداءً لواجب النصرة لأصحاب المظلمات، إلا أنها لم تقم من أجل حمل مظلمة وإنما من أجل حمل رسالة، ولئن كان السعي لتخفيف معاناة الناس أو رفع الظلم عنهم جزءاً من هذه الرسالة.
إن رسالة الحركات الإسلامية هي الإحياء والتجديد، أي إعادة المسلمين إلى دينهم أو إعادة الإسلام إلى حياة الناس، فبأحكامه يسترشدون وبقيمه ومثله يتخلقون. ولذلك لا يجوز بحال أن تناقض الحركات الإسلامية نفسها وتنقلب على الغاية من وجودها رجاء تحقيق مصالح معينة، بل ولا يجوز أن تغرق في قطرية طارئة على حساب رسالة عالمية أخذت على عاتقها حملها ونشرها في أرجاء العالم. وأخطر ما في الأمر أن تناقض الحركة الإسلامية باختياراتها السياسية منظومة الأخلاق التي ما لبثت تدعو إليها، ومن أجلها كسبت قلوب الناس وعقولهم. فعلى سبيل المثال، لا يُقبل من أي حركة إسلامية تحت أي مسوغ تبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري الإحلالي، والاعتراف بشرعيته وقد غزا أرض المسلمين، ولم يزل منذ نشأته يسوم أهل فلسطين وما حولها سوء العذاب، زاعماً انطلاقاً من أساطير بالية أن له حقاً إلهياً في أولى القبلتين وثالث الحرمين. كما لا يُقبل من زعيم إسلامي وصف سفاح مجرم يداه تقطران من دماء أهل السنة في سوريا والعراق واليمن بأنه شهيد الأقصى، ولا يستساغ من حركة إسلامية أن تسعى للتصالح مع نظام طائفي إجرامي قتل مئات الآلاف من أبناء المسلمين وشرد نصف الشعب السوري من دياره ردعاً لهم بسبب نضالهم من أجل العيش في وطنهم بحرية وكرامة.
الغاية الأساسية من مشاريع وحركات العمل الإسلامي المنظم هي مقاومة محاولات سلخ المسلمين عن دينهم ثم النهضة بالأمة حتى تستأنف حمل الرسالة إلى كل الناس
تعود جذور الحركات الإسلامية المعاصرة إلى القرن الثامن عشر، والذي انطلقت فيه مشاريع تجديدية حفز مؤسسيها تخلف المسلمين وتسرب كثير من المعتقدات والسلوكيات إلى حياتهم بما يتناقض مع الرسالة الأصيلة للإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم. ولعل أبرز هذه المشاريع تلك التي أسسها ثلاثة من المجددين في القرن الثامن عشر، هم شاه ولي الله الدهلوي في الهند، وعثمان بن فودي في غرب أفريقيا، ومحمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب. كان هم هؤلاء الدعاة هو تنقية الإسلام مما تسرب إليه من شوائب، والنهوض بالأمة حتى تستأنف حمل الرسالة التي ورثتها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى العالمين.
ثم في القرن التالي طرأت على الأمة تحديات من نوع آخر تمثلت في الغزو الأوروبي لكثير من ديار المسلمين، فنشأت بناء على تراث المشاريع الإحيائية في القرن السابق وما قبله، حركات إسلامية مقاومة، أفزعها ما جاء به المستعمر الأوروبي من أنماط ومسالك أراد فرضها بالقوة لسلخ المسلمين عن هويتهم الحقيقية، وذلك لما وجد أن الإسلام يشكل عقبة كؤوداً في طريق سيطرته على المناطق التي غزاها.
ثم نشأت فيما بعد أنظمة حكم محلية داخل كيانات سياسية وضع حدودها ورسم ملامحها المستعمر نفسه، فنشأ ما بات يعرف بالدولة القطرية، في محاولة لاستنساخ الدولة القومية في أوروبا. والحقيقة أن تلك الكيانات لم تزد عن كونها محميات عائلية تعيش داخلها شعوب مسلوبة الإرادة محرومة من الحرية ومن كل الحقوق الأساسية. ما كان يسعى الاستعمار إلى تحقيقه ورثته من بعده النخب الحاكمة باسم الوطنية أو القومية، والتي كان وما يزال أبرز أدواتها القمع والقهر والإقصاء بكل أشكاله.
فانطلقت مشاريع التجديد والإحياء في القرن العشرين تقاوم التخلف والإرث الاستعماري واستبداد وفساد أنظمة الدولة القطرية، وتناضل من أجل إعادة الاعتبار للرسالة الإسلامية الأصيلة.
إذن، الغاية الأساسية من مشاريع وحركات العمل الإسلامي المنظم هي مقاومة محاولات سلخ المسلمين عن دينهم ثم النهضة بالأمة حتى تستأنف حمل الرسالة إلى كل الناس. وهذا ما لا يجوز أن يتغير أو يتبدل أياً كانت المظالم ومهما عظمت المصائب واشتدت المحن.
والخلاصة هي أن الإسلاميين حملة رسالة لا أصحاب مظلمة، وذلك هو أبرز ما يفترض أن يميزهم.