في رد فعل أولي على هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
الذي شنه مقاتلو
حماس ضد المستوطنات والبلدات
الإسرائيلية في غلاف
غزة، قارن بعض
المحللين ما حدث في ذلك اليوم بما وقع في عام 1968 في فيتنام بما يعرف بهجوم تيت.
سلط هؤلاء المحللون الضوء على وجهين من أوجه التشابه بين الهجومين: عنصر المفاجأة
والتداعيات التي غيرت مجرى الأحدث فيما بعد. فقد كان هجوم تيت بقيادة الجنرال جياب
هو الذي قلب الرأي العام في الولايات المتحدة، وأقنع الحكومة الأمريكية بأنه لم
يعد بإمكانها الاستمرار في قتال الشعب الفيتنامي، وأجبرها على التفكير بالانسحاب
الكامل من فيتنام.
على الرغم من أن الهجوم جاء مفاجئاً للجميع، وبشكل خاص
للإسرائيليين بالذات، إلا أن انفجاراً من نوع ما كان متوقعاً منذ وقت طويل بسبب
الأوضاع المتدهورة والاحتقان الشديد سواء داخل الضفة الغربية أو في قطاع غزة. ومع
ذلك، لم يخطر ببال أحد من الناس أن تتمكن المقاومة في غزة من شن مثل هذا الهجوم
الصاعق، المنظم بدقة، والمتصف بالجرأة، والذي أثبت أن إسرائيل، ورغم كل الدعم
والدلال الأمريكي والأوروبي الذي تحظى به، كيان في غاية الهشاشة، ولا يملك مقومات
البقاء طويلاً. ولعل هذا هو ما أدخل الرعب في قلوب أولياء الصهيونية في الغرب.
كان مذهلاً بحق أن تتمكن الحركة بمهارة فائقة من
اختراق السياج وشل أنظمة الكشف والمراقبة الإلكترونية لدى إسرائيل. وكان مدهشاً
بنفس الدرجة مستوى السرية الذي تمت به العملية، بما يثبت أن الاستخبارات
الإسرائيلية لم تفلح في اختراق أي من الوحدات التي كانت تتدرب على العملية وتعد
لها منذ شهور. وذلك على الرغم من أن غزة، كالضفة الغربية، تعاني من وجود عناصر،
وربما شبكات، من الجواسيس الذين يعملون لصالح إسرائيل أو لصالح السلطة
الفلسطينية
في رام الله.
بعد هجوم حماس، وعلى إثر ما أصاب الإسرائيليين من صدمة
وهلع، توجه نتنياهو نحو واشنطن والعواصم الغربية يستغيث ويطلب النصرة، ويطلب منحه
فرصة للانتقام بلا قيود أو ضوابط، فكان له ذلك.
ونظراً لأن نتنياهو متهم بالفساد، ولديه قضايا في
المحاكم يحاول التهرب منها بكل الوسائل، ويتوقع كثير من الناس أن يحمله الرأي
العام الإسرائيلي المسؤولية عن الفشل الذريع الذي مُنيت به أجهزته الأمنية في
حماية مستوطنات غلاف قطاع غزة، فقد راح يتوعد ويهدد، ثم شن الحرب بكل ما لديه من
عتاد ومدد أمريكي وأوروبي، عله يقنع شعبه بأنه قائد فذ، وعساه يبيّض شيئاً من
صفحته السوداء لديهم، وفوق كل ذلك تعهد للصهاينة وأنصارهم بأن حملته لن تتوقف قبل
القضاء على حماس قضاء مبرماً.
أصول حماس
نظراً لأن نتنياهو متهم بالفساد، ولديه قضايا في المحاكم يحاول التهرب منها بكل الوسائل، ويتوقع كثير من الناس أن يحمله الرأي العام الإسرائيلي المسؤولية عن الفشل الذريع الذي مُنيت به أجهزته الأمنية في حماية مستوطنات غلاف قطاع غزة، فقد راح يتوعد ويهدد، ثم شن الحرب بكل ما لديه من عتاد ومدد أمريكي وأوروبي، عله يقنع شعبه بأنه قائد فذ، وعساه يبيّض شيئاً من صفحته السوداء لديهم
تأسست حركة المقاومة الإسلامية حماس في كانون الأول/
ديسمبر 1987 بعيد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية مباشرة، وكانت قبل ذلك هي نفسها
جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. وكان المحفز على هذا التحول هو اندلاع
الانتفاضة الشعبية التي انطلقت بعفوية كرد على الوضع المتردي، بل والمأساوي، في قطاع
غزة آنذاك تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
في السنوات السابقة، وطوال فترة الاحتلال الذي بدأ بعد
حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو من عام 1967، بقيت جماعة الإخوان المسلمين حركة
شعبية قاعدية تركز نشاطها على التربية الدينية والتثقيف الفكري والإصلاح الاجتماعي
والعمل الخيري، إذ كانت ترى أن مهمة تحرير فلسطين أكبر من قدرة أهل فلسطين وحدهم،
بل تحريرها تتحمل مسؤوليته الأمة قاطبة، ففلسطين أرض الإسراء والمعراج، ومهد
النبيين، وفيها القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين، وكانت حتى سقوط الدولة
العثمانية جزءاً من بلاد المسلمين.
والذي كرس فكرة أن نهضة الأمة شرط للتحرير عند الإخوان
المسلمين، بل وعند غيرها من الجماعات الإسلامية، هي التجربة المريرة لحرب 1948،
حين هب الإخوان من مصر ومن كل بلاد العرب، من بلاد المغرب العربي إلى اليمن،
ليدافعوا عن فلسطين ويمنعوا الصهاينة من اغتصابها وإقامة دولتهم على ترابها، ولكن
الأنظمة العربية، والتي كان جلها حينذاك مستعمرات أو محميات بريطانية أو فرنسية،
تواطأت عليهم وعلى فلسطين، وكان جزاؤهم في مصر على الأقل الحظر والسجن والتنكيل،
بل والقتل. إذن، لا بد أولاً من أن تنهض الأمة وتتحرر من أصفاد التبعية
والاستبداد.
إلا أن الجيل الجديد من أعضاء الجماعة، وهم أبناء
الصحوة الإسلامية التي شهدتها سبعينيات القرن العشرين، بدأ يتململ ويبدي أمارات
عدم الرضى عن عزوف الجماعة عن المشاركة فيما كانت تنظمه التيارات الأخرى من نشاطات
سياسية مناهضة للاحتلال، بما في ذلك المقاومة بشقيها السلمي والعسكري، وخاصة أن أحوال
الناس بسبب الاحتلال كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. لم يعد هؤلاء الشباب يقتنعون
بما تقتصر عليه الجماعة من نشاطات تربوية وثقافية وخيرية وإصلاحية، وصاروا يتوقون
إلى الانضمام إلى أقرانهم في الفصائل الأخرى، الذين يقارعون الاحتلال. ولربما ساهم
في تنامي ظاهرة السخط تلك تأسيس حركة الجهاد الإسلامي مطلع الثمانينيات من قبل
أعضاء سابقين في جماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم فتحي الشقاقي وعبد العزيز
عودة.
وقعت الواقعة في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من عام
1987، عندما تسبب سائق جرار عسكري صهيوني في مقتل عدد من العمال الفلسطينيين
العائدين في حافلة صغيرة إلى القطاع من أماكن عملهم داخل الكيان الصهيوني. كان ذلك
الحادث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأشعل فتيل الانتفاضة، التي عرفت باسم
انتفاضة الحجارة. وكان من أبرز تداعياته أنه أجبر قيادة الإخوان في قطاع غزة على
إعادة النظر في منهجيتهم، ثم اتخاذ قرار تاريخي بتحويل جماعة الإخوان إلى حركة
مقاومة للاحتلال، أطلقوا عليها اسم "حركة المقاومة الإسلامية"، ومختصرها
حماس.
في البداية لجأت حركة حماس إلى أساليب المقاومة
السلمية، ولكن بالتدريج، ومع توحش سلطات الاحتلال في قمع المتظاهرين السلميين
وإطلاق الرصاص الحي على رماة الحجارة، بدأ شباب الحركة يخططون للقيام بهجمات
بالسكاكين على جنود الاحتلال، فيما عُرف آنذاك بحرب السكاكين. ثم تمكن بعضهم فيما
بعد من اختطاف بنادق من الجنود الإسرائيليين راحوا يستخدمونها في مهاجمة واختطاف
جنود الاحتلال. وكان ذلك مؤذناً بمولد الجناح العسكري لحركة حماس، والذي أطلقت
عليه الحركة اسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام" تيمّناً بهذا العالم
السوري الهمام، الذي جاء إلى فلسطين مجاهداً ضد الاحتلال البريطاني بعد أن جاهد ضد
الاحتلال الفرنسي في بلاده، واستشهد عام 1935 في معركة مع القوات البريطانية في
قرية يعبد، التي تقع على بعد عشرين كيلومتراً تقريباً من مدينة جنين، شمالي
فلسطين.
ثم ما لبث أن حصل تطور آخر في أسلوب المقاومة رداً على
مجزرة ارتكبها في الخامس عشر من رمضان، الموافق للخامس والعشرين من شباط/ فبراير 1994،
مستوطن يهودي يدعى باروخ غولدستين، كان قد قدم إلى فلسطين مهاجراً من مدينة
نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية. اقتحم هذا المستوطن المسجد الإبراهيمي في
مدينة الخليل وأطلق النار على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال مزهقاً أرواح عشرات
المصلين وهم ركوع، فردت حماس على الجريمة بسلسلة من "العمليات
الاستشهادية" التي يطلق عليها في الغرب اسم العمليات الانتحارية.
هزت هذه العمليات الكيان الصهيوني وأنصاره، ووجدوا
أنفسهم في مواجهة سلاح لم يحسبوا لها أي حساب، ولا قِبل لهم بردعه. حينذاك كان
مؤسسة الحركة الشيخ أحمد ياسين، رحمه الله، معتقلاً، يقضي حكماً طويلاً بالسجن منذ
خمس سنين. فجاءه في زنزانته عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين في سلطة
الاحتلال وسألوه: "كيف يمكننا وضع حد لهذا القتل"، فأجابهم بكل هدوء:
"توقفوا عن قتلنا نتوقف عن قتلكم." وعرض عليهم هدنة طويلة الأمد مقابل:
1) إنهاء الاحتلال؛ 2) سحب المستوطنين من كل المناطق المحتلة؛ 3) إطلاق سراح جميع
الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
كان الإسرائيليون آنذاك في ذروة نشوتهم بإبرام
اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير قبل شهور معدودة، ونالوا بها اعتراف المنظمة بحق
إسرائيل في الوجود مقابل اعتراف الأخيرة بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب
الفلسطيني، وتحولت بموجبها منظمة التحرير إلى سلطة متعاونة مع الاحتلال، فلم
يعيروا ما عرضه عليهم الشيخ أحمد ياسين اهتماماً.
واستمرت الحركة في مقاومتها وإسرائيل في قهرها، مع أن الأعوام
التالية شهدت عدة اتفاقات هدنة عبر وساطات، ولكنها لم تدم طويلاً، إذ كانت سلطات
الاحتلال تنتهكها في كل مرة. ولعل من أشهرها الهدنة التي خرقها رئيس الوزراء شمعون
بيريز بإصداره الأمر باغتيال يحيى عياش في عام 1996 بعد هدنة استمرت لما يقرب من
ستة شهور، وتلك التي انتهكها رئيس الوزراء إيهود أولمرت بعد ستة شهور من التهدئة
عندما اغتال مجموعة من أعضاء حماس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، ثم أتبع ذلك بحرب
اجتاح بها القطاع في كانون الأول/ ديسمبر 2008 وكانون الثاني/ يناير 2009.
لعله من المفيد الإشارة إلى أن اتفاق الهدنة طويلة
المدى يعني فك الاشتباك ووقف القتال، ولكنه لا يعترف بشرعية الأمر الواقع، أي لا
يعترف بحق إسرائيل في الوجود في أي مكان في فلسطين.
مع مرور الزمن نمت حركة حماس واكتسبت مزيداً من الشعبية، ولم تزل استطلاعات الرأي المحلية تظهر أن شعبيتها، فيما عدا فترات محدودة، لم تتراجع على الرغم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في القطاع جراء الحصار المفروض عليه منذ أن تولت الحركة مسؤولية إدارة الحكم فيه
فيما بعد تخلت حركة حماس عن "العمليات
الاستشهادية" عندما طورت سلاح الصواريخ المصنعة محلياً، ومع مرور الوقت
تمكنت، رغم الحصار المفروض عليها، من الاستفادة من كثير من التقنيات الحديثة في
تطوير ترسانتها، فحسنت من قدراتها الصاروخية، وصنعت الطائرات المسيرة، وفاجأت
الإسرائيليين في هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 باستخدام الطائرات
الشراعية والضفادع البشرية.
شعبية حماس
مع مرور الزمن نمت حركة حماس واكتسبت مزيداً من
الشعبية، ولم تزل استطلاعات الرأي المحلية تظهر أن شعبيتها، فيما عدا فترات
محدودة، لم تتراجع على الرغم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في القطاع جراء الحصار
المفروض عليه منذ أن تولت الحركة مسؤولية إدارة الحكم فيه.
وكانت حركة حماس قد شاركت للمرة الأولى في انتخابات
المجلس التشريعي التي نظمت في عام 2006 وفازت بأغلبية المقاعد، فما كان من
الإسرائيليين إلا أن توجهوا نحو حلفائهم في الغرب يلحون عليهم عدم التعامل مع
حماس، برغم فوزها في انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، ما لم تستجب لثلاثة شروط،
صارت تعرف رسمياً بشروط الرباعية، لإضفاء مشروعية دولية عليها بعد أن تبنتها كل من
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، وغدت سيفاً يشهر في
وجه كل من تسول له نفسه التعامل مع الحركة. والشروط هي: 1) الاعتراف بحق إسرائيل في
الوجود؛ 2) إلقاء السلاح والتخلي عن المقاومة المسلحة؛ 3) إعلان الالتزام بجميع ما
وقعت عليه منظمة التحرير من اتفاقيات ومعاهدات.
رفضت حماس شروط الرباعية، فصدر الأمر بمقاطعتها وتجريم
التعامل معها، وطلبت إسرائيل والدول المانحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من
السلطة الفلسطينية في رام الله النأي بنفسها عن إدارة حماس، فاستجابت لذلك، بل
وحرضت الموالين لها في مختلف القطاعات، ومنها الصحة والتعليم، على الإضراب عن
العمل ومقاطعة حكومة حماس، وتعهدت بدفع رواتب من قعدوا في بيوتهم استجابة لهذا
المطلب.
رغم كل هذه الإجراءات، مضت حماس في سبيلها، ولم يفت
ذلك في عضدها، فأرسلت حكومة الولايات المتحدة الجنرال دايتون إلى المنطقة ليشرف
بنفسه على محاولة انقلابية قادها ضابط يدير الأمن الوقائي في السلطة الفلسطينية،
وخصم لدود لحركة حماس ولجماعة الإخوان المسلمين، اسمه محمد دحلان. إلا أن المحاولة
فشلت، ونشب جراء ذلك في أنحاء القطاع في شهر حزيران/ يونيو من عام 2007 قتال بين
قوات حماس والقوات الموالية لسلطة رام الله، أفضى في نهاية المطاف إلى هيمنة حماس
على القطاع منفردة، بينما عملت أجهزة أمن السلطة في رام الله بمساعدة قوات
الاحتلال منذ ذلك الحين على اجتثاث حركة حماس في الضفة الغربية، فحظرت نشاطها،
وأغلقت مؤسساتها، ولاحقت عناصرها وقمعت أنصارها.
منذ ذلك الحين وقطاع غزة معاقب محاصر، إقليمياً
ودولياً، إلا بالقدر الذي تسمح به إسرائيل. فهي التي تقرر متى يحق لأهل غزة أن
تصلهم الكهرباء، وأن يتزودوا بالوقود، ومتى يجوز لهم الحصول على الماء والغذاء،
ومتى يتوفر لهم الدواء. ويتم كل ذلك بتنسيق مع كل من السلطة في رام الله والنظام
المصري في القاهرة.
ما من شك في أن شعبية حماس المستمرة هي نتيجة حتمية
ومباشرة لفشل عملية السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير، والتي توهمت قيادتها بأن
اتفاقية أوسلو بين الطرفين سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى حل الدولتين. ولكن ثبت مع
الأيام أن السلطة الفلسطينية التي أفرزتها أوسلو إنما أراد لها الإسرائيليون أن
تكون وكالة تابعة لهم، تتعاون معهم في إدارة الاحتلال، وتحمل عنهم أعباءه. وذلك
بالضبط ما أدركه ياسر عرفات، متأخراً لسوء حظه، في عام 2000، أثناء محادثات كامب
دافيد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، وبرعاية الرئيس الأمريكي
السابق بيل كلينتون.
استثمر الإسرائيليون في حقيقة أن جل الأنظمة العربية لم تعد تعير القضية الفلسطينية أدنى اهتمام، بل وترى أن مصلحتها ليست في دعم صمود الشعب الفلسطيني وإنما في إبرام الصفقات مع الصهاينة في كافة المجالات، في تحد سافر لشعوبها، بل ولعموم العرب والمسلمين
عاد ياسر عرفات من واشنطن عازماً على لعب ورقة
المقاومة رجاء أن يجبر الإسرائيليين على التوقف عن التسويف في المفاوضات، وأن
يدفعهم نحو المضي في حسم الأمور العالقة، المياه والحدود والقدس والمستوطنات، وصولاً
إلى إقامة الدولة الفلسطينية. ولذلك قام ياسر عرفات، بالتفاهم مع فصائل المقاومة
وعلى رأسها حماس، بعمل ما يلزم من أجل تحريك الشارع الفلسطيني نحو الانتفاض ثانية
على الاحتلال.
كانت الانطلاقة في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2000،
رداً على اقتحام شارون، زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك، للمسجد الأقصى، فكانت
تلك هي انتفاضة الأقصى، فما كان من إسرائيل إلا أن شنت على السلطة والمقاومة حرباً
شرسة، فحاصرت عرفات في مقره في المقاطعة، ودمرت جل منشآت السلطة التي أقيمت خلال
السنوات الست الماضية، واغتالت عدداً كبيراً من رموز المقاومة، وعلى رأسهم الشيخ
أحمد ياسين ثم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وأخيراً دست السم لياسر عرفات عبر بعض
المقربين منه وقضت عليه. بعد أن دمرت إسرائيل سلطة عرفات، لم تلبث أن أعادت بناء سلطة
جديدة، ونصّبت رئيساً عليها محمود عباس، الذي يعتقد أن مقاومة الاحتلال نوع من
العبث.
بعد مرور ثلاثة عقود على بدء عملية السلام بين منظمة
التحرير وإسرائيل، وهي في الواقع عملية لم تزل مجمدة منذ سنين، باستثناء التعاون
الأمني بين الجانبين، لم يعد لدى أحد من الفلسطينيين شك في أن الإسرائيليين، ومنذ
البداية، لم ينشدوا السلام يوماً، وأن كل ما يهمهم هو تدجين الفلسطينيين.
زادت خلال السنوات الأخيرة وتيرة الاقتحامات المتكررة
من قبل الصهاينة للمسجد الأقصى، بينما لم تتوقف المضايقات اليومية للمواطنين على
أيدي المستوطنين وجنود الاحتلال، ناهيك عن أن الحصار المفروض على غزة لم يتوقف منذ
سبعة عشر عاماً. وأخيراً، عمل الإسرائيليون على تجاوز الفلسطينيين، بل والدوس على
هاماتهم، في مساعيهم للوصول إلى مختلف أنحاء العالم العربي عبر مشاريع التطبيع
المتتالية مع الأنظمة المستبدة القاهرة لشعوبها.
لقد استثمر الإسرائيليون في حقيقة أن جل الأنظمة
العربية لم تعد تعير القضية الفلسطينية أدنى اهتمام، بل وترى أن مصلحتها ليست في
دعم صمود الشعب الفلسطيني وإنما في إبرام الصفقات مع الصهاينة في كافة المجالات،
في تحد سافر لشعوبها، بل ولعموم العرب والمسلمين.
ماذا بعد السابع من أكتوبر؟
في ظل هذا التقهقر والتولي والتخلي، تتصدر حركة حماس،
ومعها فصائل المقاومة الأخرى، لتعيد الاعتبار للقضية، والتذكير بأنها سوف تظل
القضية الأولى للعرب والمسلمين. وتثبت القضية الفلسطينية تارة أخرى أنها تكاد تكون
القضية السياسية الوحيدة، من بين جميع قضايا العرب والمسلمين، التي يجمع عليها
العرب والمسلمون، ويقفون فيها وقفة رجل واحد، وقد شهدنا مواقف مشابهة حتى خارج
العالمين العربي والإسلامي. والحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه لا يملك عاقل منصف
إلا أن يتفهم تقدير وامتنان وحب الشعب الفلسطيني، بل والعرب والمسلمين وأنصار
الحرية والكرامة الإنسانية، للمقاومة.
بغض النظر عما ستتمخض عنه الحرب الحالية في غزة، لقد
رأى كثيرون حول العالم الوجه الحقيقي لإسرائيل، وتابعوا لحظة بلحظة، بفضل تقنيات
التواصل الحديثة، ما الذي تفعله بالفلسطينيين، وكيف تسارع الحكومات الغربية إلى
تأييد ما ترتكبه من إبادة جماعية، بل تحرض بعض هذه الحكومات إسرائيل وتشجعها على
القيام بذلك.
من يدرس تاريخ الصراعات سيجد تشابهاً مذهلاً بين ما
يجري الآن في فلسطين وما كان يجري عندما كان شعب فيتنام يناضل ضد الإمبريالية
الأمريكية، وعندما كان شعب الجزائر يناضل ضد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي
الفرنسي، وعندما كان شعب جنوب أفريقيا يناضل ضد نظام التمييز العنصري (الأبارتيد).
وكما حدث في تلك النضالات، قد تكون هذه الحرب بالفعل نقطة تحول بالغة الأهمية؛
يتغير بعدها موقف الرأي العام العالمي من الصراع في فلسطين بالقدر الذي يساهم في
تعديل ميزان القوة لصالح الحق والعدل.
بغض النظر عما ستتمخض عنه الحرب الحالية في غزة، لقد رأى كثيرون حول العالم الوجه الحقيقي لإسرائيل، وتابعوا لحظة بلحظة، بفضل تقنيات التواصل الحديثة، ما الذي تفعله بالفلسطينيين، وكيف تسارع الحكومات الغربية إلى تأييد ما ترتكبه من إبادة جماعية، بل تحرض بعض هذه الحكومات إسرائيل وتشجعها على القيام بذلك
ومع ذلك يتساءل كثير من الناس: هل ستنجو حماس من هذه
الأزمة؟ وما الذي ستؤول إليه أوضاع المقاومة؟ وما هو مستقبل القضية الفلسطينية؟
لا ريب في أن هذه الحرب ستخلف مأساة عميقة، وربما تكون
بالفعل نكبة أخرى يُمنى بها الشعب الفلسطيني. فمنذ ما بعد السابع من تشرين الأول/
أكتوبر لم يتوقف القصف الإسرائيلي على غزة مع استمرار الحصار التام، استشهد وجُرح الآلاف،
وتسابق زعماء أمريكا وأوروبا على تبرير جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، والتي
لم يتورع قادتها عن تهديد الفلسطينيين بنكبة ثانية.
يعتبر أنصار إسرائيل أن ما قامت به حماس يوم السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر عمل شنيع من أعمال الإرهاب يستحق الشعب الفلسطيني بأسره
العقاب عليه. ومع ذلك، كثيرون من حول العالم يعتبرون أن ما فعلته حماس عمل يندرج
ضمن الكفاح المشروع من أجل الحرية والكرامة. يرى الفلسطينيون عامة، ومعهم مناصروهم
من كل ملة وفي كل مكان، أن ما تخوضه المقاومة الفلسطينية هو حرب تحرير ضد احتلال
مستمر منذ خمسة وسبعين عاماً، ويعلم هؤلاء يقيناً أن الإسرائيليين هم من بدأوا
دورة العنف هذه، وهم أول من مارس الإرهاب، حينما احتلوا فلسطين وشردوا أهلها
وارتكبوا المذابح بحقهم في عام 1948. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف الدولة التي أقامها
الصهاينة على أرض فلسطين، وسموها إسرائيل، عن ارتكاب ما يشيب له شعر الوليد من
جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية، كما هي معرّفة في القانون الدولي.
لا ينبغي أن نستغرب إصرار أنصار إسرائيل في مواقع
صناعة القرار في الغرب وفي وسائل الإعلام على وصم بمقاومة الفلسطينيين المشروعة ضد
الاحتلال بالإرهاب. أوَ لم يكن الفيتناميون إرهابيين في عيون الأمريكان؟ أوَ لم
يكن نيلسون مانديلا ورفاقه إرهابيين في عيون العنصريين في جنوب أفريقيا وأنصارهم
في الغرب؟ أين هي اليوم مارغريت ثاتشر التي أعلنت ذات مرة أن نيلسون مانديلا
إرهابي لن يُسمح له بأن يطأ بقدميه تراب بريطانيا؟ ثم انتصر مانديلا، وجاء إلى
بريطانيا رئيساً لبلاده وبطلاً تاريخياً ورمزاً للنضال ضد الظلم والطغيان، بل
وأقيم له فيما بعد تمثال في أهم ساحات لندن. ثم ألم يكن رجال المقاومة الجزائرية
إرهابيين في نظر الفرنسيين؟ فماذا حصل للمستعمرين الفرنسيين الذين جثموا على صدور
الجزائريين مائة وثلاثين عاماً ثم خرجوا عائدين إلى بلادهم يجرون ذيول الخزي
والهزيمة؟
في كل هذه الحروب كما في حرب غزة الآن، لا يكتفي
المستعمر باستخدام الحديد والنار، بل يسلط آلة دعايته على الضحايا ليشوه صورتهم
ويؤلب الغافلين عليهم، ولكن في زمن تعدد واستقلال وسائل الرصد والنشر، لم يعد هذا
السلاح فتاكاً كما كان في الماضي. ها هم يكذبون الكذبة، فيتصدى لهم المدافعون عن
حق المعرفة وحق التعبير وحق السلامة من التضليل ليكشفوا كذبهم ويفضحوا أحابيلهم،
ولم تنطل على الناس افتراءاتهم حتى حين استعانوا في نشرها بشخص مثل بايدن، أو
بوسائل إعلامية واسعة الانتشار كمحطات التلفزيون والإذاعة والصحف اليومية، بفضل
أنصار الحق والعدل.
على المدى الأبعد قليلاً، يُتوقع أن تساهم الأحداث
الأخيرة في إطلاق حراك في العالم العربي شبيه، إن لم يكن أضخم، بما شهدته المنطقة
في أواخر 2010 ومطلع 2011. تتعلق قلوب العرب قاطبة اليوم بغزة ويبكون دماً على ما
يحل بأهلها، ويكاد يقتلهم العجز عن النفير لنصرتهم، فهم الآخرون محاصرون من قبل
أنظمة استبدادية قمعية، لا تحرك ساكناً إلا أن يصلهم أمر من أصحاب السلطان عليهم
في تل أبيب أو في واشنطن.
بعض الأنظمة العربية تصهينت تماماً، فراحت تعزي
الصهاينة وتندد بضحاياهم الغزيين. عاجلاً أم آجلاً، لسوف تنتفض الجماهير العربية
على هذا الوضع، وتنفض عنها أغلال الاستبداد والقهر، وتخرج مناضلة من أجل حريتها
وكرامتها، ولسوف يفتح كفاحها من أجل الحرية والكرامة الطريق نحو فلسطين.
أما بالنسبة للكيان الصهيوني، فيبدو جلياً أن نتنياهو
ومن معه لم يتعلموا شيئاً من دروس التاريخ، سواء تاريخ احتلالهم لفلسطين أو
التاريخ الإنساني بشكل عام. فما يسعون لتحقيقه في غزة اليوم حاولوه مراراً من قبل،
فما الذي يجعلهم يظنون أنهم سوف يفلحون هذه المرة؟ ثم هب أنهم قتلوا قادة حماس
وأضعفوا الحركة أو حتى قضوا عليها، وهب أنهم سفكوا دم عدد هائل من الفلسطينيين، وهجّروا
أهل غزة منها، فهل ضمنوا أمنهم أو أمنوا مستقبلهم؟ جل المحللين يقولون إن إسرائيل
ليست لديها خطة واضحة، ولا تعرف يقيناً مآلات ما تقوم به الآن. إلا أن المؤكد،
والذي لا ريب فيه، هو أن المقاومة سوف تنبعث من جديد طالما بقي للصهيونية وجود في
فلسطين.
الصهيونية تقوم على عقيدة التفوق العرقي لليهود على
غيرهم، وعلى الزعم بوجود حق إلهي لهم في أن يأتوا من كل حدب وصوب إلى فلسطين
فيحتلوها ويقيموا على أرضها دولة لهم، كما تقوم على اعتبار الفلسطينيين، بل والعرب
والمسلمين، حيوانات في صورة البشر، وذلك ما عبر عنه وزير دفاعهم في بداية الحرب،
مقللاً من قيمة الفلسطينيين ومبرراً ذبحهم.
كانت الصهيونية منبوذة في مبدئها من قبل جل اليهود في
العالم، ولم تحظ بتعاط وتأييد من عدد كبير منهم إلا بعد صعود النازيين إلى الحكم
وارتكاب المحرقة. ويبدو أن الأمور اليوم بدأت تعود إلى ما كانت عليه من قبل،
فأعداد متزايدة من يهود العالم باتوا يرفضون الصهيونية ويعتبرونها وبالاً عليهم،
ويخشون من عاقبة ظلمها للفلسطينيين واعتداءاتها المستمرة عليهم باسم اليهود.
ولذلك من المهم أن يكون لدى أنصار فلسطين وعي بأن هذا
الصراع ليس بين المسلمين واليهود، وليس صراعاً دينياً وإن كان الدين جزءاً أساسياً
فيه، فالصهاينة يستخدمون الدين ذريعة لتبرير جرائهم، والمسلمون يجدون في دينهم
محفزاً على النضال ضد الظلم والطغيان، ومحرضاً على الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
إن ما يدور من حرب في فلسطين هو في الأساس صراع بين
غزاة معتدين وأصحاب الأرض الأصليين، صراع أشعلت فتيله قبل أكثر من قرن رغبة الغرب
في التمكن لأطول فترة ممكنة من الهيمنة على العالم العربي، قلب العالم الإسلامي،
والحيلولة دون أن تقوم للمسلمين قائمة بعد أن أسقطت خلافتهم، وتقاسمت الدول
المستعمرة تركتها في مطلع القرن العشرين.