كم هو محزن وقوع بعض النخب العربية الكارهة لإيران، أو المتضررة من أعمالها وممارسات حلفائها داخل المنطقة العربية، في المصيدة الصهيونية، حين تجزم بأن ما يصدر من أعمال عن القوى المنسوبة لإيران ضد الصهاينة وحلفائهم، سواء انطلاقاً من اليمن أو من لبنان أو من العراق أو من
سوريا، إنما الغاية منه هو خدمة الأطماع
الإيرانية في الهيمنة على المنطقة سياسياً أو مذهبياً. ذلك بالضبط هو ما لا يكف عن ترديده الإسرائيليون وحلفاؤهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، حين يعزون كل الهجمات الموجهة ضد الكيان الصهيوني أو ضد مصالح حلفائه، انطلاقاً من لبنان أو من اليمن أو من العراق أو من سوريا، إلى خطة إيرانية خبيثة.
وكأن المشكلة أولاً وأخيراً هي إيران، وكأن الاحتلال الصهيوني لفلسطين ليس هو المشكلة، وكأن أذرع المشروع الصهيوني الممتدة من المحيط إلى الخليج ليست هي المشكلة، وكأن القواعد الأمريكية المتناثرة في أراضي العرب والمسلمين، والتي ينطلق منها الدعم العسكري واللوجستي للكيان الصهيوني، ليست هي المشكلة، وكأن أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي، التي تنتهك حقوق المواطنين، وتجثم على صدور العرب وتكتم أنفاسهم وتنهب مقدراتهم، ليست هي المشكلة، وكأن الصهاينة العرب الذين يمدون الكيان الصهيوني بأسباب الحياة بعد أن أغلق أهل اليمن البحر الأحمر في وجه الملاحة المتجهة إليهم ليست هي المشكلة. خلاصة القول: هناك في العالم العربي من النخب من يتفق، كل لأسبابه الخاصة، مع الصهاينة والأمريكان وباقي رعاة الاحتلال في الغرب في الجزم بأن المقاومة التي يبذلها أهل فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني، وما يقدمه أنصار المقاومة في لبنان واليمن والعراق وسوريا من دعم وإسناد لها، هو المشكلة.
من نتكلم عنهم ليسوا من أصحاب النوايا السيئة، ولا يعرف عنهم أنهم من حلفاء الصهاينة وأعوانهم، ولكنهم ببساطة خصوم لإيران ولأذرعها. ولا شك في أن إيران صنعت منهم خصوماً لها بسبب تدخلاتها التي أضرت بهم أيما ضرر، سواء في لبنان أو في سوريا أو في العراق أو في اليمن، أو حتى في بعض دول الخليج.
لقد أشكل على هؤلاء تفسير موقف إيران الداعم لحليفها في الشام، نظام بشار
الأسد، ضد الثورة السورية، ثم تمكنها في العراق بسبب حماقة الأمريكان الذين تحالفوا لإسقاط نظام صدام مع أولياء إيران في العراق، ثم تمكنها في اليمن بسبب حماقة حكام السعودية والإمارات الذين تآمروا مع علي عبد الله صلاح، الرئيس اليمني الذي أطاحت به الثورة، لاستخدام الحوثيين في ضرب التجمع اليمني للإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين في اليمن، رجاء أن يخلصوا من الطرفين في حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر.
وخصومة هؤلاء لإيران هي التي تجرهم إلى الموقف الذي يجعلهم في الظاهر يبدون منحازين للصهاينة ولحلفائهم، بل ومدافعين عنهم، ويوقعهم أسرى لنظرية المؤامرة، نظراً لأنها وحدها القادرة على توفير المبرر لما يتبنونه من مواقف ويعبرون عنه من آراء. فنظرية المؤامرة التي يلوذون بها تقضي بأن إيران في نهاية المطاف متواطئة مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة، وأن كل ما يصدر عنها من تصرفات إنما هو بتوافق مع "أعداء الأمة"، حتى وإن حاصرها الأمريكان، وحتى وإن سعى الصهاينة بكل ما أوتوا من نفوذ للحد من قدراتها العسكرية والنووية، بما في ذلك التحريض عليها لدى دوائر صنع القرار في الغرب، وحتى وإن شن الصهاينة وحلفاؤهم على إيران وأذرعها الحملات تلو الحملات، اغتيالاً وتخريباً وحصاراً.
ليس القصد من هذا المقال الدفاع عن إيران ولا عن أحد من التنظيمات الموالية لها أو المتحالفة معها، وإنما القصد هو تنبيه ضحايا نظرية المؤامرة إلى أن ما يذهبون إليه من تفسير للأحداث لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وإلى أن مواقفهم، سواء قصدوا أم لم يقصدوا، إنما تصب في مصلحة المعسكر الصهيوني بكل مكوناته وبكل الألسنة التي ينطق بها.
إن الغاية من هذا المقال هو التنبيه إلى حقيقة أن علاقات السياسة الدولية بالغة التعقيد، ولا يمكن التعامل معها باختزال شديد. فإيران لديها مصالح، تسعى كدولة إقليمية طامحة إلى الدفاع عنها، وهي في سبيل ذلك قد تأتي من الأفعال ما فيه ظلم واضح، ولا تختلف في ذلك عن غيرها من القوى الإقليمية أو الدولية الأخرى التي تحركها نوازع الخوف والطمع.
وهذا ما يفسر الموقف الإيراني من ثورة الشعب السوري، الذي خرج مطالباً بالحرية والكرامة، فوجد إيران، التي تدعي نصرة المستضعفين في الأرض، وترفع شعار الإسلام، تنحاز إلى جانب نظام علماني طائفي جائر، لم يدخر وسعاً في ارتكاب أبشع الجرائم ضد أهل سوريا من أجل البقاء في الحكم. وذلك أن إيران كانت على وشك أن تخسر حليفاً استراتيجياً استثمرت فيه عشرات السنين والمليارات من الدولارات، وكادت أن تُقطع عليها الطريق الموصلة إلى البحر المتوسط، وإلى ذراعها الحيوي في لبنان. فآثرت المصلحة الذاتية على القيم والمبادئ والأخلاق.
وذلك هو الذي يفسر اغتنام إيران لما ارتكبه الأمريكان من حماقات في غزو أفغانستان والعراق، وما ترتب على ذلك من معمعة وفوضى وفراغ، فقفز الإيرانيون إلى الساحة التي مكن الأمريكان فيها لحلفاء الجارة الطامحة، صاحبة الثأر القديم مع العراق، فصارت لهم الكلمة الفصل في كثير من الأمور الحاسمة، بما في ذلك اختيار الحكومة وتنصيب رئيسها.
وبنفس الطريقة يمكن تفسير التوغل الإيراني في اليمن. ما كان لذلك التوغل أن يحدث لولا أن بلدين محسوبين على أهل السنة، وكلاهما يحكمه نظام لا صلة له بالإسلام الحق من قريب أو بعيد، توافقا مع الحاكم السابق لليمن على ضرب التيار الإسلامي السني الذي كان مرشحاً لاستلام السلطة في البلاد لو كتب للمسار الديمقراطي أن يُستكمل. وكانت خطتهم تقضي باستخدام تيار يمني زيدي ينسب إلى الحوثي كحربة يُطعن بها الإسلام السني في اليمن، فما كان من هؤلاء الذين كانت لديهم مظلمة قديمة، وعلاقات متنامية جديدة مع إيران، إلا أن اغتنموا الفرصة وقلبوا الطاولة على المتآمرين في أبو ظبي والرياض، فخلت الساحة لأتباع الحوثي بعد أن قرر قادة التجمع اليمني للإصلاح ألا يكون أتباعهم وقوداً لمعركة الكل فيها خاسر، فانقلب السحر على الساحر.
أما موقف إيران من الكيان الصهيوني، فهو موقف العداء المطلق، وكذلك هو موقف الكيان الصهيوني من إيران: إنه العداء المطلق. ومن يظن أن ذلك العداء مجرد تمثيلية فهو يعيش في الوهم، مؤثراً إنكار الحقائق لصالح الهواجس. ولا أدل على ذلك من أن إيران هي البلد الوحيد في المنطقة الذي بقي على دعمه للمقاومة في فلسطين، تمويلاً وتسليحاً وتدريباً، وهو موقف لم يتغير أو يتبدل منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بعد أن أطاحت الثورة بنظام الشاه، الذي كان يمد الكيان الصهيوني بالنفط، وتستخدمه الولايات المتحدة شرطياً لها في منطقة الخليج.
نعم لإيران مصالح ترجو تحقيقها من دعم المقاومة في فلسطين وفي لبنان، ولا أقل من ذلك أن دعم المقاومة سبب للتزين بالشرف والتباهي به، وخاصة حين تسقط في أوحال التطبيع والعمالة معظم الأنظمة التي تتحكم بمقاليد الأمور في البلدان ذات الأغلبية السنية في المنطقة. كما أن الخصومة بين إيران من جهة والصهاينة وحلفائهم في الغرب من جهة أخرى لم تتوقف منذ سقوط الشاه، كما أن الثارات بين المعسكرين عميقة ومتعددة الأسباب، فقد كانت حقبة الشاه الموالي للصهاينة فصلاً من أحلك الفصول في تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب. كما أن الغرب هو الذي حرض صدام حسين على شن الحرب على إيران في عام 1980 بتمويل من دول الخليج، التي رأت في ذهاب حكم الشاه خسارة فادحة لها وفي قيام الجمهورية الإسلامية خطراً محدقاً بها. ناهيك عن أن دول الخليج الموالية للغرب لم تأل جهداً في صناعة وتمويل الحركات الانفصالية التي نشطت في أنحاء مختلفة من إيران ما بعد قيام الجمهورية.
جدير بمن يريد أن يدلي بدلوه في أحداث الحرب الصهيونية على
غزة، وفي تداعيات ذلك على المنطقة – بما في ذلك احتمال توسع رقعة الصراع، أن يحلل الأحداث بعيداً عن مشاعر الحب أو الكراهية "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"، بل ينبغي أن يكون التحليل قائماً على المعلومات الصحيحة، وعلى الأدلة الثابتة، وليس على الأوهام، وعلى فرضيات نظرية المؤامرة البائسة. دافع عن الحق ولو كان صاحبه خصمك، ولا تقف مع الباطل ولو كان صاحبه خليلك.