ورد في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية أن كلمة extremism، والتي يقابلها باللغة العربية مفردة
التطرف، تستخدم لوصم من يُتهمون بحمل وجهات نظر دينية أو سياسية متشددة، وبشكل خاص من يلجأ منهم إلى إجراءات "متطرفة".
ولكن هل يمكن بالفعل الوصول إلى تعريف قطعي لهذا المصطلح؟ ثم، ما الذي يعتبر في هذا السياق موقفاً معتدلاً أو وسطاً؟
تزعم الحكومة البريطانية أن الوسط في الأمور هو "القيم البريطانية"، وأن من يشذ عن هذه القيم فهو المتطرف. ولكن ما هي القيم البريطانية؟ وما هي مرجعيتها؟ هل هي المسيحية؟ أم اليهودية؟ أم أيديولوجيا أخرى مختلفة، مثل اللبرالية أو العلمانية؟
لو كانت المعايير هي الديمقراطية كنظام حكم، وحقوق الإنسان كمجموعة من الحقوق الأساسية التي لا يجوز التفريط فيها أو انتهاكها، بحسب ما ورد النص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فلا توجد لدينا مشكلة كبيرة، لأن هذه أمور من الممكن تعريفها.
أم أن المشكلة التي نحن بصددها هي مجرد تباين ذي طابع سياسي، وبالذات حول السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومة البريطانية؟
خلال ما لا يقل عن ربع قرن من وجودي داخل الرابطة الإسلامية في
بريطانيا، أذكر أننا مررنا بفترات قصيرة من الوئام شهدت تعاوناً وثيقاً مع الحكومة البريطانية. وكان من أبرز أوجه التعاون حل أزمة مسجد فينزبري بارك في شمال مدينة لندن، والعمل على تحرير مراسل للبي بي سي كان محتجزاً في داخل قطاع غزة من قبل إحدى الجماعات المسلحة.
إلا أن الرابطة الإسلامية، مثلها مثل منظمات كثيرة من منظمات المجتمع المدني في بريطانيا، لم تتوافق في الرأي مع الحكومة البريطانية في العديد من المواقف الأخرى، ومن أهمها قضية غزو العراق والقضية الفلسطينية.
كانت الحكومة البريطانية كلما اشتدت معارضتنا لها تلجأ من حين لآخر إلى إغلاق أبوابها في وجوهنا، ولربما كان لها دور، من خلال ما تمارسه من نفوذ أو توجيه، في إقصائنا عن كثير من الميادين، وخاصة الإعلامية والأكاديمية.
والحقيقة هي أن رئيس الوزراء ريشي سوناك ووزير المجتمعات مايكل غوف يضللان الشعب البريطاني إذ يلوذان بمصطلح التطرف. والعجيب حقاً في الأمر هو أنهما راحا يتهمان معارضي حكومتهم بما يتهمها به المعارضون لها، فهي في نظر كثير من البريطانيين حكومة متطرفة.
ثم جاء الانقلاب على الديمقراطية والقمع العنيف الذي تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فتوالت الضغوط على الحكومة البريطانية من قبل ممولي ورعاة الثورة المضادة، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مما أسفر عنه إنتاج قائمة سوداء تحتوي على أسماء الأفراد والهيئات التي يُشك بأن لديهم علاقة، من قريب أو بعيد، بجماعة الإخوان المسلمين.
ثم في عام 2014 أقدم رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، تحت وطأة الضغوط السعودية والإماراتية، على تشكل هيئة للتحقيق في جماعة الإخوان المسلمين، لم تخرج في النهاية بشيء ذي بال، ولئن كانت النية أساساً هي إثبات أن جماعة الإخوان المسلمين ضالعة، بطريقة أو أخرى، في الإرهاب، وهي تهمة لم يتمكن القائمون على هيئة التحقيق إثباتها. وكل ما قالوه حينها إن جماعة الإخوان المسلمين توجد القابلية لدى منتسبيها للانزلاق نحو التطرف.
والآن يطل علينا مصطلح التطرف من جديد في محاولة من قبل الحكومة البريطانية الحالية لإسكات منتقدي الكيان الصهيوني، الذي ما لبث يشن حملة إبادة جماعية على أهل غزة منذ أكثر من خمسة شهور. وتارة أخرى، تفوح من هذه المحاولة رائحة الضغوط السعودية والإماراتية.
والحقيقة هي أن رئيس الوزراء ريشي
سوناك ووزير المجتمعات مايكل غوف يضللان الشعب البريطاني إذ يلوذان بمصطلح التطرف. والعجيب حقاً في الأمر هو أنهما راحا يتهمان معارضي حكومتهم بما يتهمها به المعارضون لها، فهي في نظر كثير من البريطانيين حكومة متطرفة.
بدلاً من الانشغال بتحسين أحوال البريطانيين، ومعالجة أسباب الفقر والتشرد وانعدام المساواة في المجتمع البريطاني، اختار هذان السياسيان تسخير إمكانيات الدولة لخدمة الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويرتكب المذابح بحق أهلها.
لقد بات جلياً لدى الرأي العام البريطاني أن الحكومة الحالية شريك كامل للكيان الصهيوني الذي يرتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد أهل غزة ويمارس القهر والتنكيل بحق أهل الضفة الغربية، مستخدماً قواته الأمنية المسلحة وعصابات مستوطنيه، وفي نفس الوقت يمارس الأبارتيد ضد أهل فلسطين الذين بقوا صابرين صامدين مرابطين في مناطق الثمانية والأربعين.
كما أنه ليس من المستبعد أن سوناك وغوف، في حملتهما الجديدة "ضد التطرف" إنما يقومان بذلك نيابة عن الأنظمة العربية المستبدة التي اشتركت في جريمة إحباط الربيع العربي، وقتل الديمقراطية، وسجنت آلاف العلماء والمفكرين ونشطاء حقوق الإنسان.
إن اتهام الرابطة الإسلامية في بريطانيا، بل وحتى جماعة الإخوان المسلمين، بالإخلال بمنظومة القيم البريطانية اتهام باطل. فجماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الأكثر اعتدالاً، فكراً وممارسة، والأكثر وسطية بين جميع مكونات الطيف الإسلامي الحركي المعاصر، ولقد شارك ممثلوها في انتخابات برلمانية وحققوا فوزاً مشهوداً في مصر وفي تونس، ولولا الانقلابات العسكرية والتدخلات الأجنبية التي أجهضت المسار الديمقراطي في كل بلدان الربيع العربي لحققت الجماعة المزيد من الانتصارات حيثما سمح بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة في أي مكان داخل الوطن العربي.
إن الذي ينتهك القيم البريطانية فعلياً هما سوناك وغوف. إنهما من يقوض سمعة بريطانيا كبلد ديمقراطي، فهما يشنان الحرب على منتقديهم، ويسعيان إلى تقييد حريات الناس في التعبير والتجمع والتظاهر، وينتهكان حقوق المواطنين في مساءلة الحكومة حول سياستها الخارجية.
إن هذه الحرب التي تشن باسم مكافحة التطرف على واحدة من أكثر المنظمات اعتدالاً ضمن التيار الإسلامي في بريطانيا، ما هي إلا محاولة لنجدة إسرائيل ومن يواليها من أنظمة الاستبداد والفساد في العالم العربي.
ينبغي على سوناك وغوف أن ينشغلا بما كلفهما به الشعب البريطاني من السهر على راحته وأمنه، بدلاً من إعطاء الدروس للمسلمين حول ما ينبغي أن يكون عليه الإسلام الذي يعتنقونه أو يمارسونه. فالمسلمون يتعلمون دينهم من القرآن والسنة النبوية، وليس من سياسيين يدعمون المذابح التي يرتكبها الصهاينة ويغضون الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الدكتاتوريات الجاثمة على صدور الشعوب في البلاد العربية.
وإذا كانت الحكومة البريطانية مهتمة فعلاً ببناء إجماع وطني حول ما يسمى بالتطرف، فإنه ينبغي عليها الاستعانة بأهل العلم لا أدعيائه، وألا تسمع لما يقوله العنصريون واليمينيون المتطرفون الذين يقدمون أنفسهم لها على أنهم باحثون أو مستشارون أو خبراء.
لا ريب أن الحكومة البريطانية تفتقر إلى النصح السديد، ولا ريب كذلك أن بعض المتنفذين فيها إنما يسعون لخدمة مصالحهم الذاتية، وخدمة مصالح أصدقائهم الأجانب في تل أبيب وفي بعض العواصم العربية، على حساب المصلحة العامة للأمة البريطانية.