كثيرة هي الأمثال والقصص العربية عبر تاريخنا الطويل التي تصف الموقف أو المشهد الذي أدى به بشار
الأسد صلاة العيد في
داريا، بعد أن باتت تلك المدينة خالية من جميع المخلوقات البشرية أو الحيوانية، اللهم ما عدا الجرذان والفئران ومليشيات النظام السوري المتعددة الجنسيات.
من هذه الأمثال (إذا غاب القط العب يا فأر)، ومنها أيضاً (حين تغيب الأسود تستأسد القرود)، وربما كان المثل الثاني أكثر ارتباطاً بما حصل في داريا، كونه يجسد واقع الحادثة بدقة. وكما يقول السوريون عن الدقة في وصف حالة معينة كزيارة بشار وهذا المثل (حفر وتنزيل)، وهو ما بات واضحاً جلياً للعالم أجمع، فعندما غاب أسود داريا، مكرهين، عن مدينتهم، تحت ضغط نفاذ الذخيرة، وعدم اكتراث الثوار في المناطق القريبة، وتواطؤ المجتمع الدولي، بعد سنوات ثلاث عجاف تعرّضوا فيها لما تعرّضوا له تحت مرآى العالم ومسمعه، ظهر بشار الأسد في داريا ظاناً نفسه بطل زمانه.
ربما يسأل أحدنا نفسه سؤالاً بديهياً، عن أي انتصار هذا الذي يفرح به من يسمي نفسه رئيس دولة؛ على مدينة مدمرة خالية، بعد أن عجز جيشه العرمرم عن تحقيق نصر على بضع مئات من المقاتلين طيلة أكثر من ثلاث سنوات، ذلك الجيش الذي يحوي جنسيات متعددة من إيرانية وعراقية ولبنانية وأفغانية وباكستانية وغيرها، مدعومين بالطيران الروسي والصمت والتخاذل العربي والتواطؤ والتآمر الدولي؟
إنه الانتصار على الأنقاض، انتصار كرتوني خلّبي، انتصار على الأخلاق بحدودها الدنيا، وانتصار على الرجولة..
كيلومترات مربعة قليلة تلك التي كانت بيد ثوار داريا، وأكثر من ثلاث سنوات من الحصار والقتل والقصف والمعارك، عجز النظام السوري وجيشه متعدد الجنسيات عن اقتحامها، ليُظهر لنا تقرير التلفزيون السوري بشارا يقود سيارته وحيداً إلى أحد مساجد داريا ويصلي صلاة العيد بصحبة عدد من زبانيته، بعد أن خلت المدينة حتى من الطيور.
مشهد الانتصار الخشبي الفارغ هذا أُريد له أن يُحدث فارقاً على الأرض السورية، لما لداريا من مكانة ثورية، لكنّ الصورة فشلت، كما الإخراج والسيناريو، ولم تلقَ رواجاً حتى لدى المؤيدين للنظام السوري، بل كان هذا المشهد برمته دليلاً إضافياً على المأزق الذي يعاني منه النظام السوريوالدولي من وراءه.
سبق أن زار بشار الأسد حي بابا عمرو في حمص، حيث سوّى جيش الأسد أبنيته بالأرض بعد أن عجز عن اقتحامه بفعل المقاومة الشرسة من قبل ثوار الحي. زار الأسد بابا عمرو بعد أن خلا أيضاً من سكانه ومقاتليه، كان يريد وقتها أن يظهر انتصاره ويكسر الثورة ويصيبها في مقتل، بعد أن أذاقت جيشه ومليشياته الويلات، كان ذلك قبل نحو أربع سنوات ونصف، لكن الثورة استمرت رغم أنف بشار وجيشه وداعميه.
يمكننا أن نتحدث أبعد من الوصف الآني لمشهد زيارة بشار إلى داريا وتأديته صلاة العيد، وهنا ندخل في التركيبة الجينية للتصرفات والأفعال، وكما بدأنا حديثنا بذكر ما يزخر به التاريخ العربي من قصص وأمثال طالت من الحياة جميع ضروبها، نتحدث عن الجينات المكونة للإنسان العربي، الشجاع وصاحب الكرامة والموقف وغيرها. لنقول ما كان لعربي أن يفعل ببلده كما فعل بشار الأسد، وما كان لعربي أن يعتبر موقفاً كهذا انتصاراً.
ربما يتكرر مشهد داريا في أماكن مجاورة أو قريبة، لكن المؤكد أن ثورة دخلت في منتصف عامها السادس وحيدة غريبة في هذا العالم القذر، ما كانت لتقف عند كبوة هنا أو انكسار هناك.. فالثورة لا تقف قبل أن تحقق أهدافها أو يفنى آخر رجل مؤمن بها، وهو مالم يحدث سابقاً ولا أظنه سيحدث.