كثيراً ما نشاهد حدثاً واحداً، نتابعه في نفس التوقيت، ومن نفس المصادر، لكننا نختلف في زاوية الرؤية والتحليل، وقراءة ما بين السطور من رسائل هي في دلالاتها أعمق من ظاهر الحدث نفسه. وهذا ما كان من القمة العربية الأوروبية في الرابع والعشرين من الشهر الماضي.
ففي المشهد الرسمي، قمة عربية أوروبية هي الأولى من نوعها، تراوحت موضوعاتها ما بين اقتصادية وتجارية وأمنية، بالإضافة لملفات الهجرة وغيرها، جمعت القادة الأوروبيين والعرب في منتجع شرم الشيخ في مصر؛ قمة قيل إنها جاءت من أجل تعزيز التعاون الإقليمي، للتعاطي مع "التحديات المشتركة" التي يواجهها الطرفان!
أما على الصعيد الشعبي العربي، فإن القمة جاءت كتتويج ودعم أوروبي على أعلى المستويات؛ للنظام الرسمي العربي على ما فعله ويفعله في شعوب المنطقة منذ بداية الربيع العربي.
وهي على هذا الأساس تأتي "بالفعل" لمواجهة التحديات، مع اتفاق في المعنى واختلاف في المضمون، ما بين الشعوب وحاكميها.
أيام تعد على أصابع اليد الواحدة، كانت تفصل بين الإعدامات في مصر وموعد انعقاد القمّة، تلك الإعدامات التي نفذها النظام المصري بحق تسعة من الشباب، على خلفية اتهامات باغتيال النائب العام في صيف 2015؛ وهي الاتهامات التي فندتها الفيديوهات التي ظهر بها الشباب وهم يناقشون قضاة المحكمة، وشهادات ذويهم.. وغير ذلك، ولسنا بهنا بصدد الحديث عنها.
ولنا هنا أن نطرح سؤالاً بديهياً: كيف نستطيع أن نثق بعدل وقضاء وأحكام، في بلد يسيطر عليه الجيش والأمن بقبضة من حديد، في ظل نظام ديكتاتوري قمعي؟ سؤال نوجهه إلى قادة دول الاتحاد الأوروبي، إذ يسود القانون بفضل القضاء المستقل، وحيث حق التعبير مكفول، والعدل موجود، وحقوق الإنسان غير قابلة للمساس.
هؤلاء القادة الذين سبق وقبلوا الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع المصري حينها - رئيس الجمهورية الآن - عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، وها هم يتعاملون معه ما بين زيارات واستقبالات!
كان باستطاعة النظام المصري تأجيل تنفيذ أحكام الإعدام إلى ما بعد انعقاد القمة المشتركة، ليرفع الحرج عن المشاركين، لكن الموعد جاء برسائل مفادها أننا نملك الضوء الأخضر الدولي لوضع الشعوب من جديد تحت عصا الطاعة، والقضاء على أي حلم بازدهار الربيع العربي مجدداً.. ذلك الربيع الذي أربك العالم شرقاً وغرباً خشية خروج الأمر في المنطقة عن سيطرة النظام الرسمي الدولي، وما سيكون له من تبعات تنعكس على العالم أجمع.
وبما أن المصالح سيدة العلاقات الدولية، فلنا أن نذكّر برد الفعل الأوروبي على قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، والتي استنفرت فيها الدبلوماسية الأوروبية إلى مدى بعيد ضد السعودية، والهدف لا يمتّ لحقوق الإنسان بصلة، إنما اغتنام فرصة الحصول على مزيد من مليارات السعودية عبر صفقات واستثمارات وغيرها!
فمصر الفقيرة اقتصادياً لا تعني للأوروبيين شيئاً مقارنة بالسعودية الغنية، ومن هذا المنطلق كان الصمت سيد الموقف الأوروبي في قضايا الإعدامات التي طالت عدداً من الشباب المصريين في شهر شباط/ فبراير الماضي وقبله. هذا الموقف الرسمي عينه الذي لا يرى ما يجري من انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان في السعودية والإمارات وعمان والسودان وجميع الدول العربية، إلا في نطاق ما يحقق مصالحه والتي على رأس أولوياتها إبقاء الشعوب العربية تحت السيطرة من قبل أنظمة القمع والدكتاتوريات.
إن قمة شرم الشيخ إذ جمعت النظامين الرسميين الأوروبي والعربي، وضعت دول الاتحاد الأوروبي في صف واحد مع الأنظمة العربية ضد تطلعات الشعوب في الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، ما يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الجانبين من جهة، وحقيقة الاستقلال وطبيعته من جهة أخرى، حيث يرى الكثيرون أن الربيع العربي هو الفرصة للاستقلال الحقيقي داخلياً وخارجياً من أجل النهوض بالبلاد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وصحياً، وما إلى ذلك.
ومن مبدأ اللامبالاة المتعمّد، فقد بلغ الاستهتار مداه في مقطع فيديو يظهر رئيسة وزراء بريطانيا وهي تلعب "البلياردو" مع رئيس الوزراء الإيطالي وسط متابعة آخرين، في جو من الاستمتاع والضحك والترفيه.. كيف لا وهم في شرم الشيخ؟! لكن لو أنهم صمتوا قليلاً لسمعوا بكاء الأمهات والزوجات والأطفال على من أعدمهم النظام المصري، وليسوا عنهم ببعيد.
يخطئ القادة الأوروبيون إن كانوا يظنون أن عجلة التاريخ ستعود للوراء، ويخطئون أكثر إن كانوا يظنون أيضاً أن المنطقة العربية باقية تحت حكم أنظمة سقطت - منذ سنوات - بانتظار إعلان موتها الذي قد يتأخر، إلا أنه لا محالة قادم.
وها هي شعوب السودان والجزائر تتابع مسيرة الربيع العربي، غير آبهة بما سيكون. أما بخصوص هذه القمة، فسنترك تصنيفها للتاريخ الذي يكتب الآن لتقرأه الأجيال القادمة، أجيال ما بعد الربيع العربي..
الثورة محطة تاريخية خاصة واستحقاقات ومهام خاصة