الحدث:
في 15 يوليو الجاري، وعند حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا، تحرك فصيل كبير من الجيش التركي قدّرته المصادر بنحو 30% من هيكل القوات المسلحة التركية، في محالة للانقلاب على الرئيس
أردوغان وحكومته المنتخبة برئاسة بن علي يلدريم. بعد أكثر من ساعتين أعلن الانقلابيون فرض الأحكام العرفية في البلاد عبر التلفزيون الرسمي التابع للحكومة التركية، وأقفلت أبرز المنشآت الحيوية في البلاد، من بينها المطارات والجسور الرئيسية، وبدأت وسائل الإعلام، خاصة الغربية، تنقل الأحداث كما لو أن الانقلاب قد نجح، وأطيح بالقيادة المنتخبة.
وبعد ساعات قليلة خرج الرئيس التركي متحدثا إلى إحدى القنوات الخاصة، والمحسوبة على المعارضة، قائلا "إنني أتطلع إلى نزول كل الشعب التركي إلى الشوارع والساحات، ولا أعتقد أن أولئك الذين يحاولون الانقلاب سيحققون هدفهم، وهم سيتعرضون لأشد العقاب".
استجاب مئات الآلاف من المواطنين الأتراك لنداء الرئيس أردوغان، ونزلوا إلى الشوارع والميادين، وفي حوالي الساعة 2:00 صباحا، قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم بأنه قد تم القبض على الانقلابيين، وفي حوالي الساعة 4:00 صباحا، خاطب أردوغان الشعب التركي، ليحسم الجدل بشأن فشل الانقلاب، ونجاح الحكومة في استعادة مقاليد الأمور.
على الفور، بدأت الاتهامات تتوالي إلى الجهة التي تقف خلف هذا الانقلاب، وتوجيه الاتهام مباشرة إلى جماعة فتح الله غولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، والحليف السابق للرئيس أردوغان، والعدو اللدود له منذ عام 2013.
وعلى الرغم من نفي فتح الله غولن لهذه الاتهامات، وإدانة الانقلاب بأشد العبارات، إلا أن أغلب المؤشرات التي تتحدث عنها المصادر التركية المطلعة، ترجح صلة جماعته بهذا الانقلاب، وهو ما بدأت التسريبات تكشفه وفقا لمحاضر التحقيق، التي تجريها الجهات العدلية في البلاد.
في ضوء هذا الحدث، وبعد الجدل الذي أثير حول جماعة فتح الله غولن، فإن هذه الورقة تركز على السياق التاريخي لنشأة حركة"
الخدمة" على الساحة التركية، وتتتبع مسار الجماعة، وعلاقاتها، والأدوار التي لعبتها، وكذلك تُعرّف بأبرز التكتيكات التي اتخذتها في سبيل تعزيز نفوذها في مؤسسات الدولة التركية، وصولا إلى معرفة حقيقة ارتباطها الغربي.
السياق التاريخي الذي نشأت به حركة "الخدمة":
ظهرت حركة "الخدمة" مطلع السبعينات في
تركيا، وتحديدا في مدينة أزمير الساحلية، ذات الأهمية الخاصة للغرب، بزعامة فتح الله غولن (75 سنة)، الذي ينحدر من ولاية أرضروم في الأناضول.
مثلت حقبة السبعينات في تركيا ذروة تصاعد أعمال العنف السياسي والاضطراب الاجتماعي، الذي صاحب الركود الاقتصادي، والاستقطاب الحاد الذي شهدته البلاد بين اليمين القومي والتيار الإسلامي من جهة، واليسار التركي من جهة أخرى.
تطور الاستقطاب الحاد بصورة تعكس تداخل الصراع الداخلي والصراع الدولي، ثم تحول إلى ما يشبه الحرب بالوكالة بين القطبين الدوليين، الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، وتشكلت منظمات عنف يمينية ويسارية، مارست الاغتيالات والتصفية والخطف لتحقيق أهدافها السياسية، وكان أبرزها ضرب أهداف أمريكية، وخطْف جنود أمريكيين، واغتيال القنصل الإسرائيلي. وكذلك تعرض المئات من الكوادر والقيادات الطلابية والعمّالية للتصفية والاختفاء القسري في أنحاء مختلفة من تركيا.
في عام 1971،مهّدت تلك الأحداث الطريق للانقلاب على الحكومة المنتخبة برئاسة سليمان دميريل، الذي كان يمثل يمين الوسط، والتي بدت عاجزة عن احتواء هذه الأحداث. عُرف هذا الانقلاب بانقلاب "المذكرة"، وتم تبريره بدوافع الخوف من الشيوعية، أكثر من كونه محاولة لحكم البلاد وإصلاحها، وذلك بحسب ما أكدته الوثائق والأحداث التي تلت الانقلاب.
في السياق ذاته، جاء تأسيس حركة "الخدمة" كأحد أشكال التصدي للمد الشيوعي، الآخذ في التمدد في مناطق الصراع، وعلى التخوم بين الكتلتين الشرقية والغربية، حيث وجد الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، في هذه الحركة، بديلا أيديولوجيا ناجعا لمواجهة اليسار واليمين التركييْن على حدّ سواء. فقد مثل التياران نزوعا نحو مزيد من الاستقلال عن المنظومة الغربية، خاصة مع تواصل التجاهل الغربي للعديد من نقاط الارتكاز في المصالح التركية، لاسيما في القضية القبرصية، الأمر الذي ساهم في توليد قناعة متزايدة لدى النخب السياسية التركية، بضرورة إعادة تقييم جدوى استمرار وجود تركيا في الحلف الأطلسي.
وسط هذا الجدل حول موقع تركيا في الصراع الدولي، أبصرت حركة "الخدمة" النور، وأعلنت مبادئها، التي تعكس في جوهرها مزيدا من التماهي مع متطلبات وجود تركيا في التحالف الأطلنطي. إذ أن من أبرز مقولات زعيمها فتح الله غولن: "تركيا وراء الأسوار هي البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، قبل أن تكون العرب أو الفرس، والمجال الحيوي لتركيا هو الشمال وليس الجنوب، وهو أوروبا وأمريكا، وإن أي محاولة لإحياء الميول العثمانية هو عبث لا طائل تحته، وإن الغرب المتحضر هو الصديق الطبيعي للأمة التركية الناهضة."
وبذلك أضفى مؤسس الحركة على العلاقة بالغرب أبعادا عقائدية، وذلك من خلال تعزيز مفاهيم توثق عرى الارتباط بمبادئه وفلسفته، وتشدد الخناق على أي إمكانية لتسلل الشيوعية إلى المجتمع التركي، وحتى دول البلقان والمجتمعات الناطقة باللغة التركية. كذلك استند مؤسس الحركة إلى إرث الصوفية الذي يضرب جذوره عميقا في المجتمعات التركية، لاسيما موروث الحركة التي قادها بديع الزمان سعيد النورسي في مطلع تأسيس الجمهورية التركية، وإبان تصاعد الأتاتوركية العلمانية، شديدة العداء لكل مظاهر التدين.
حركة "الخدمة" في خدمة من؟
يمكن معرفة أبرز مواقف حركة "الخدمة"، وتوجهاتها العامة، والدور الذي رسمته لنفسها، داخل تركيا وخارجها، من خلال مواقف وتصريحات زعيمها فتح الله غولن، ومن خلال تتبع مسارها والأدوار الهامة والمفصلية التي لعبتها في الساحة التركية، في العقود الأربعة الماضية، وخاصة دورها في ترسيخ دعائم حكم ما أو تقويضه، وكذلك من خلال تنظيمها المحكم وهيكلها الغامض، ومؤسساتها العملاقة والمتنوعة، في مجالات التعليم والاقتصاد والإعلام والفكر. وأبرز ما يميز مواقف الحركة أن الغرب صديق طبيعي للأمة التركية.
فقد نشرت مؤسسة راند، المدعومة من المؤسسة العسكرية الأمريكية، تقريرا عام 2007،بعنوان "بناء شبكات مسلمة معتدلة". تناول التقرير فكرة الاستفادة من تجربة بناء الشبكات إبان الحرب الباردة لمواجهة الشيوعية، باعتبارها نموذجا يمكن استخدامه من جديد في مواجهة "الإسلام الراديكالي". يكشف التقرير سبب اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بفتح الله غولن، باعتباره "أحد الشركاء المرتقبين، والقائد الديني التركي الذي يتبنى الإسلام الصوفي الحديث المعتدل"، حيث أنه يعارض تنفيذ الدولة للقانون الإسلامي.
استطاع زعيم حركة "الخدمة" صناعة نخبة تركية متصالحة مع جذورها ظاهريا، وفي الوقت ذاته نخبة عصرية تسعى لأن تكون بديلا طبيعيا للنخبة العلمانية، التي فقدت حماستها للوظيفة التي أُنيطت بالجمهورية التركية، كسدّ منيع أمام التمدد السوفيتي، دون أن تتلقى تركيا المعاملة اللائقة من حلفائها الأطلسيين، على الرغم من القطيعة التي قامت بها تلك النخبة مع جذورها، والفاتورة الباهظة التي دفعتها تركيا الدولة من سيادتها وأمنها، في إطار المواجهة المحتدمة بين قطبي السياسة الدولية.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، عملت حركة "الخدمة" على بناء هذه النخبة المعتدلة، وفقا لمعايير أوضحها تقرير مؤسسة راند، ومن ثم تغلغلت بصورة واسعة في هياكل الدولة، لاسيما المواقع الحساسة في الأمن والقضاء والجيش، حتى استطاعت أن ترسخ دعائم وجودها، باعتبارها مقررا رئيسيا في معادلة السلطة في البلاد.
فمن خلال استعراض مسيرتها في أبرز الأحداث والتحولات التي شهدتها تركيا، نستطيع رسم ملامح وأجندة تلك الحركة، وارتباطاتها الداخلية والخارجية، بدْءا من عام 1980 حين ساندت الانقلاب الدموي بقيادة الجنرال كنعان إيفريل، الذي هدف إلى قطع الطريق أمام تصاعد نفوذ الإسلاميين بقيادة نجم الدين أربكان، بعد تقاربه الكبير مع الحركة القومية، إلى جانب الخوف من تداعيات الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وانعكاساتها على الداخل التركي، والخشية من تكرار السيناريو الإيراني بعد فقدان الولايات المتحدة الأمريكية شاه إيران، كحليف مهم بالنسبة لها.
وكذلك أيدت حركة "الخدمة" الانقلاب على رئيس الوزراء نجم الدين أربكان عام1997،والذي أُطلق عليه "انقلاب ما بعد الحداثة"، حيث أُجبر أربكان على الاستقالة، وذلك بعد أن قاد حزبه مظاهرة كبيرة في إسطنبول، رفعت فيها لافتات وشعارات مؤيدة لحركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
العلاقة بين أردوغان وغولن
في الأساس، عززت حركة "الخدمة" مكانتها داخل الدولة عبر التحالف مع السلطة الحقيقية، وهي المؤسسة العسكرية، في حين خاصمت كافة القوى القومية واليسارية والإسلامية في البلاد، ودعمت كافة الانقلابات العسكرية، التي كانت تعيد لتركيا أطلسيتها، متخذة من انتسابها إلى التدين الصوفي أداة مزدوجة في مقارعة الشيوعية من جهة، ومقاومة انخراط الإسلاميين في العمل الحزبي من جهة أخرى.
بيْد أن حركة "الخدمة" غيرت استراتيجيتها عندما أعلن أردوغان ورفاقه انشقاقهم عن الزعيم التاريخي للحركة الإسلامية في تركيا، نجم الدين أربكان. فقد عبّرت عن مساندتها للمنشق والسياسي الطموح رجب طيب أردوغان، بصورة تخالف موقفها الرافض لممارسة الإسلاميين للسياسة. وآنذاك، قالت مصادر قريبة من أوساط أردوغان، مؤسس حزب العدالة والتنمية، بأنه تعهد لفتح الله غولن بتقديم نموذج مختلف للإسلاميين في الحكم والسياسة، وإزالة العقبات التي كانت تحول دون تعيين أنصار بعض الفئات، وخاصة أتباع فتح الله غولن، في الوظائف الحساسة، التي كانت حكرا على العلمانيين، مثل أجهزة القضاء والأمن. إلا أن جماعة غولن، وبفضل هيكلها الفريد والخبرات التي توافرت لديها، استحوذت على النصيب الأكبر من هذه الوظائف، معززة تقدمها في أجهزة الدولة المختلفة، خاصة جهازي الأمن والقضاء، التي اعتمد عليها الرئيس أردوغان في توطيد أركان حكومته المنتخبة.
نجحت الحركة في نيل مزيد من ثقة رئيس الوزراء أردوغان، وذلك بعد كشفها، وبواسطة القوى الأمنية، عن المخطط الانقلابي ضد حكومة العدالة والتنمية عام 2009، والمعروف بقضية "أرغنكون"، التي أسفرت عن اعتقال حوالي 25% من قادة وضباط الجيش. وفي عام 2013، كشفت التحقيقات بأن أغلب أولئك الضباط الذين جرى اعتقالهم أو توقيفهم، كانوا قد تأثروا بآراء المنظر السياسي "دوجو بيرينجيك"، الذي حض على تسريع التقارب التركي مع روسيا وإيران والصين، والانسحاب من حلف شمال الأطلسي. وبذلك زجت هذه العملية بالآلاف من الضباط وأعضاء هيئة الأركان في السجن، بسبب قدرة التنظيم الموازي على تلفيق أدلة أدانتهم أمام القضاء. وهكذا، استغلت جماعة فتح الله غولن الفراغ الناشئ في دفع ضباط موالين لها إلى مواقع حساسة داخل الجيش.
وفي 17 ديسمبر 2013،وبعد أسابيع من إسقاط أول رئيس مصري مدني منتخب، وهو الرئيس محمد مرسي، عبر انقلاب عسكري قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي، كادت جماعة فتح الله غولن أن تطيح بحكومة العدالة والتنمية باستخدام القضاء والشرطة، تحت دعاوى ملاحقة الفساد في الحكومة، مستهدفة الحلقة الضيقة للرئيس أردوغان، وبشكل خاص نجله بلال، للوصول إلى إسقاط الحكومة، واعتقال رئيسها رجب طيب أردوغان .
إسقاط النظام معنويا
لم تكد تخرج حكومة العدالة والتنمية من أزمة "جيري بارك"، أي ساحة تقسيم، حتى أُعلن عن انهيار عملية السلام مع حزب العمّال الكردستاني، وذلك بعد التفجيرات التي نفذتها داعش ضد تجمعات حزبية كردية، خصوصا التفجير الذي استهدف نشطاء أكراد في ساروجا، المدينة الحدودية بين تركيا وسوريا. وتحت غطاء مواجهة حزب العمال الكردستاني، مُنح الجيش مزيدا من الصلاحيات، وعززت تلك الأحداث الاستقطابات في البلاد على أساس قومي، فيما نفذت داعش هجمات أخرى، أسفرت عن مزيد من التصدع والشقاق، بين الإسلاميين الممثلين بالحكومة، والعلمانيين الذين مثلتهم المعارضة.
بموازاة ذلك، ومع نهاية عام 2015، دخلت العلاقات التركية الروسية مرحلة خطرة، وذلك بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الضغوط على الحكومة التركية، مع تصاعد وتيرة العقوبات الاقتصادية الروسية، التي ألحقت خسائر فادحة بالاقتصاد التركي.
ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد، بل شهدت البلاد عدة تفجيرات، كان أخطرها التفجير الذي استهدف مطار إسطنبول، والذي رافق الإعلان عن تطبيع وشيك للعلاقة بين تركيا وروسيا، وقد فُسر الأمر في حينه بأنه ثمن الانعطافة الحادة في السياسة التركية، التي أغضبت الحليف الأمريكي.
وقبيل الاستدارة المعلنة في السياسة الخارجية التركية نحو موسكو، أشارت العديد من المصادر إلى اجتماع استمر لساعات، بين أردوغان وقائد القوات المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل، حيث انطوى حديث الجنرال خلاله على تهديد للحكومة التركية، يسبب امتعاضها تجاه زيارة غير معلنة للجنرال الأمريكي المذكور لشمال سوريا، التقى خلالها قادة من وحدات الحماية الكردية.
هكذا إذن جرى التمهيد للانقلاب من خلال تطويق حكومة العدالة والتنمية بالأزمات الداخلية والخارجية، وإظهارها كحكومة عاجزة عن حماية أمن البلاد داخليا وخارجيا، في محاولة لإسقاطها معنويا قبل إسقاطها بفعل الآلة العسكرية.
خلاصة
تشير القراءة التاريخية لمسار هذه الجماعة الدينية، حركة الخدمة، تقاطع مواقفها في محطات هامة من تاريخ تركيا، مع مواقف الأطراف الغربية، لاسيما الموقف الأمريكي، وكذلك الأساليب والوسائل التي اتبعتها في تعزيز نفوذها، إلى أن هذه الجماعة شكلت للغرب أداة متقدمة وعميقة في ترسيخ النفوذ الغربي، ليس في تركيا فحسب، وإنما في العديد من البلدان، لاسيما في آسيا الوسطى، وهو ما يشكل تصورا جديدا بشأن حقائق النفوذ الغربي في المنطقة وطبيعته.
يبدو أن اتخاذ هذه الجماعة تركيا مركز الثقل بالنسبة لها، مرتبط بالأساس بموقع تركيا وأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، وللقدرات الناعمة التي تتوافر لتركيا في إنجاز مهام تتصل بتقويض الشيوعية إبان الحرب الباردة من جهة، وتقويض "الإسلام الراديكالي" من جهة ثانية، وذلك نظرا لما تتمتع به تركيا من تاريخ ومكانة يعطيانها أفضلية خاصة في مثل هذه المواجهات ذات الطابع الأيديولوجي، وهو ما ينسجم مع الرؤية التي تحدثت عنها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، الصادرة عن البيت الأبيض عام 2015، والتي تناولت تركيا باقتضاب شديد، اقتصر على الحديث عن تواصل مساعي الولايات المتحدة في "تحويل تركيا".
في هذا السياق، يمكن تفسير الاستراتيجية الأمريكية، التي أدركت أن الصعود التركي حتمي في العقد القادم كما أشارت تنبؤات ستانفودر، الموقع الاستخباري العملاق، الذي يمثل ظل وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA. ومن هذا المنطلق، فضلت الولايات المتحدة استراتيجية الاحتواء عن طريق التحويل الثقافي والأيديولوجي للنخبة والمجتمع التركييْن، وهي استراتيجية بديلة عن استراتيجية التقويض، التي تتبعها مع روسيا، أو استراتيجية السحق التي انتهجتها مع ألمانيا واليابان إبان الحرب العالمية الثانية.
مستقبلا، قد تخلق إجراءات الحكومة التركية في سياق مكافحة حركة "الخدمة"، تحديات ومخاطر متعددة على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، ربما تنشأ بعض التصدعات الاجتماعية، خصوصا في محيط أولئك الذين تعرضوا للسجن، أو الفصل من وظائفهم، على خلفية الاشتباه في انتمائهم للكيان الموازي. ولكن في المقابل، يسجل للرئيس التركي أردوغان وحزبه، نجاح بارز في خلق درجة من الإجماع في مواجهة هذا التنظيم، على صعيد مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، بما فيها أحزاب المعارضة، التي وقفت مع الرئيس أردوغان في هذه الأزمة، خصوصا أن تلك الأحزاب في حالة خصومة تاريخية مع تيار غولن في الأساس.
يضاف إلى ذلك تحدّ آخر خطير، يرتبط بعمليات اجتثاث التنظيم الموازي، التي ربما تحد من كفاءة أجهزة الدولة، لاسيما الحساسة منها كالجيش والاستخبارات، وذلك في ظل تحديات خارجية تحدق بالجمهورية التركية، إلا أن ذلك التحدي يظل مؤقتا إذا ما نجحت الحكومة التركية في بناء منظومة توظيف وتصعيد ناجعة وسريعة، بالتوازي مع عمليات مكافحة هذا التنظيم.
وعلى الصعيد الخارجي، تمثل جهود مكافحة التنظيم الموازي عملية انقلابية من وجهة نظر الغرب، لا سيما أن هذه الجهود تتصل أساسا بتغيير العقيدة السياسية والأمنية للمؤسسات الحساسة في تركيا، التي تقيم علاقات وثيقة وعميقة بحلف الناتو، مما يضع هذه الجهود أمام اختبارات صعبة، وإمكانية حدوث تدخلات غربية لإعاقتها من جهة، ولإيجاد بدائل داخلية وخارجية، لتعويض خسارتها شبه المؤكدة لورقة حركة "الخدمة" من جهة أخرى، خصوصا أن لتركيا أهمية خاصة في الاستراتيجية الغربية، تحدث عنها بالتفصيل مستشار الأمن القومي الأمريكي بريجنسكي، في كتابه رقعة الشطرنج.
ستكون لهذا الحدث امتدادات تتعلق بتركيبة السلطة وتوازناتها في تركيا، وتموضع تركيا في السياسة الإقليمية والدولية، سواء على صعيد علاقاتها بالغرب من جهة، وروسيا من جهة ثانية، والمنطقة العربية من جهة ثالثة. يتوقف مستقبل هذه التطورات واتجاهها، وإلى حد كبير، على قدرة الحكومة التركية في إدارة سياسات تحافظ على التوافق الداخلي التركي، وتقلل من ردات الفعل الغربية المتوقعة، وتنسج علاقات تعاون متوازنة مع روسيا وإيران، بدلا من سياسات التنافس الإقليمي معهما، إضافة إلى تعميق علاقاتها الضرورية مع القوى الأكثر تعبيرا عن مصالح القوى الشعبية والديمقراطية في المشرق العربي المضطرب.