في ظل متابعة دقيقة لحقيقة ما يجري في
تركيا، ووصفنا لما حدث بأنه ليس مجرد انقلاب، وشرح الوضع على النحو الذي ذكرناه، نواصل في هذا المقال عرض رؤيتنا التحليلية لما سوف يترتب على نجاح الدولة والسلطة والشعب في السيطرة على مقاليد الأمور، وانعاكاسات ذلك على تركيا و أوروبا والإقليم بشكل عام.
ولكن قبل ذلك، دعني أذكرك عزيزي القارئ بفقرة وردت في مقالي السابق، وكانت تتعلق بالعلاقة بين أمريكا وجنرالات الجيش التركي، وهي على النحو التالي: "لعل أخطر ما في المشهد هو إغلاق، أو بمعنى "ألطف" حصار قاعدة إنجيرليك التركية، وهي القاعدة التي تستخدمها أمريكا وحلف الناتو في تحركاتهما في المنطقة العربية وفي شرق أوروبا، هذا وحده يكفي للتعرف على شكل العلاقة بين تركيا والناتو والولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل، من الذي سيقوم بصياغتها والتحكم فيها وفرض شروطه؟ كيف سيكون شكل هذه العلاقة؟ وما هي المساحات المشتركة؟ هذه هي إحدى نتائج ما بعد الانقلاب الفاشل، وإصرار تركيا على اللعب بهذه الورقة يعطيك انطباعا بأن تركيا الدولة شعرت أن الوجود الغربي على أراضيها وتعاونه مع بعض الجنرالات؛ لم يكن لتعزيز العمل العسكري المشترك عبر الناتو فقط، بل كان في جزء منه تدخلا في الشأن الداخلي التركي".
هذا ما ذكرته، ولم يمض وقت طويل حتى خرج قائد عسكري أمريكي ليؤكده بصراحة ووضوح يحسد عليهما؛ حين قال الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة المركزية الأمريكية: "لدينا بالتأكيد علاقات مع كثير من القادة الأتراك، لا سيما العسكريين منهم.. أنا قلق إزاء ما قد يحدث لتلك العلاقات من تأثير". وفي نفس المنتدى، أكد مدير المخابرات الوطنية جيمس كلابر ما ذهب إليه الجنرال فوتيل، حيث قال: "كثيرين ممن كنا نتعامل معهم استُبعدوا أو اعتُقلوا، وما من شك في أن ذلك سيحدث انتكاسة ويجعل التعاون أكثر صعوبة مع الأتراك".
هذا ما كنت أتحدث عنه في المقال السابق، وهو حول من سيكون له اليد العليا في إدارة ملف العلاقات العسكرية التركية مع كل من امريكا والناتو. وأعتقد أن الملف الآن أصبح بعهدة السلطة والحكومة وليس رئاسة الأركان التركية، كما كان من قبل، وقبيل نشر هذا المقال سيكون رئيس الأركان الأمريكي جيمس دانفورد ضيفا على أنقرة وسيلتقي رئيس الوزراء التركي القوي بن علي يلدريم.
نعود إلى عالمنا العربي وتأثير فشل الانقلاب على علاقة تركيا بالجوار العربي، وهو على عدة مستويات، لعل أعلى مستوى فيها هو سوريا، خصوصا وأن تركيا غامرت من أجل نصرة الشعب السوري، وتم خداعها أوربيا وأمريكيا بعدما رفض الجميع اقامة منطقة عازلة أو منطقة حظر للطيران وترك الجميع تركيا تتحمل فاتورة اللاجئين في معادلة إنسانية قبلتها تركيا مضحية بمصالح سياسية واقتصادية؛ كان من الممكن أن تساوم على تحقيقها بورقة اللاجئين لكنها فضلت القيم والمعايير الإنسانية على الانتهازية السياسية، ولا أعتقد أنها سوف تتخلى عن منظومة القيم تلك، ولكنها ستعيد ترتيب أوراقها، وبناء ملف سياسي محكم للتعامل مع المقاومة والمعارضة السورية من ناحية، ومع الناتو وأمريكا من ناحية، ومع الدول العربية التي خذلت الملف السوري والمطالب التركية، ومع روسيا التي تدخلت وأحدث ما يمكن تسميته بخلط الأوراق لصالح النظام السوري وليس لصالح سوريا الشعب والوطن.
سوريا اليوم أصبحت خارج نطاق التاريخ، ولكنها أصبحت تشكل تهديدا للسيادة التركية، وهو ما يعني أن السياسة التركية القادمة لن تكون دفاعية أو ردة فعل، بل ستميل إلى الهجوم حتى تقي نفسها مصارع السوء. وهذا الملف لن يكون بعيدا عن اللاعبين الأساسيين، وأعتقد أن دورا روسيا - تركيا سيكون محوريا؛ لأن درجة اطمئنان تركيا للسياسة الأمريكية في المنطقة قد وصلت إلى أدنى حدودها منذ نصف قرن أو يزيد.
أما بالنسبة للدول العربية التي وقفت مع الدولة والحكومة التركية فهي "قطر"، وهو موقف فيه درجة من المخاطرة، لكنه أيضا مليء بالشهامة والتعامل المبني على منظومة قيم أكثر منه على المصالح المشتركة. وقد أشاد الرئيس
أردوغان بموقف قطر، واعتبرها فريدة في موقفها، ولم يذكر أي دولة أخرى ولا أي مسؤول آخر، ما يدل على أن لديه غصة في حلقه من مواقف الدول الأخرى، وربما أتجرأ على القول بأن لديه ما قد يفهم منه تورط أو سكوت على تورط بعض الدول الخليجية في عملية الانقلاب الفاشلة، ما يجعل في فمه ماء أو ينتظر إثباتات أكثر حتى يواجه بها هؤلاء. ولكن ما ليس فيه شك، وهو ما بدأت الصحافة التركية القريبة من الحزب الحاكم تلمح إليه، هو دور محمد دحلان في الانقلاب الفاشل وعلاقاته ببعض الجنرالات المحسوبين على فتح الله غولن. وبالمناسبة، لم يُخف محمد دحلان تحريضه على القيادة التركية في أحد المؤتمرات التي عقدت في بروكسل وقد أذعت جزءا مما قاله في برنامجي اليومي "مع زوبع"، ويمكن مراجعة ما قاله، وهو أقل ما يوصف بأنه تورط مباشر وتحريض قبيح، ليس لدحلان بل للإمارات التي تستضيفه، والتي جعلت منه مستشارا للاتقلابات ونشر الفوضى في دول الربيع العربي ومن يقف معها، كما الحال في تركيا.
سنكمل الكلام عن تركيا الجديدة ومنظومة العلاقات مع العرب في المقال القادم إن شاء الله.