كان عرسا انتخابيا بامتياز، ذاك يوم انتخابات المؤتمر الوطني العام، فالجميع احتشدوا مبتهجين والجميع هرعوا إلى مراكز الانتخاب متطلعين لغد أجمل ينعمون فيه بالاستقرار والازدهار.
لكنهم اليوم قد يتجهون عكس انطلاقتهم المتفائلة، ملتفتين إلى حكم العسكر ومجلس عسكري له كافة السلطات التنفيذية والتشريعية.
فقد كانت تجربة المؤتمر الوطني مخيبة للآمال، ثم جاءت تجربة البرلمان لتفقد الليبيين قدرا كبيرا من ثقتهم في التعددية والانتخابات وفصل السلطات.
أكاد أجزم بأن الفكرة يمكن أن تروق لمعظم الليبيين، وهم بهذا لا ينظرون إلى المستقبل، فالمستقبل يستشرفه الرؤيويون من العلماء والمفكرين، وهؤلاء خيبوا الآمال، وكانوا أحد أبرز أسباب السجال الدائر اليوم، الذي أفقد المواطن ثقته في التعددية والتداول على السلطة والحريات العامة والحقوق الأساسية.
الليبيون الذين يمكن أن يدعموا فكرة المجلس العسكري ينظرون إلى الماضي بشوق، بل لا يزالون يعيشونه بعقولهم ووجدانهم، ومشكلة الماضي أنه قولب الأفهام وقيد الإدراك فصار قطاع كبير من الليبيين عاجزين عن فهم متطلبات المرحلة واستحقاقتها، التي في مقدمتها وعي بالصعوبات وتفطن للتحديات وصبر وحكمة ودفع باتجاه المسار الانتقالي التعددي.
الماضي الذي تعلق ذاكرة معظم الليبيين به هو ماضي الاستقرار قياسا بالفوضى الراهنة، فلم يعد يعني كثيرا لماذا كان ماضيهم أكثر استقرارا ولماذا حاضرهم أكثر اضطرابا. والماضي المستقر مرتبط في أذهانهم بالبزة العسكرية والسطوة والقوة والبطش، والحاضر ما هو إلا مشاهد غير مرغوبة للمليشيات والسراق اللصوص والخوف والظلام ونقص الخدمات والقتل والدمار، وبالتالي لن يحتاروا في اختيار البديل.
وأقول للرافضين لمجرد الرفض لما آل أو سيؤول إليه موقف الرأي العام. إن الرفض وحده لن يجدي وإن التمترس خلف السلاح وحده لن يغير من واقع الناس ومواقفهم وآرائهم، وما لم ير الليبيون أن المسار الانتقالي الديمقراطي بدأ يتغير إلى الأصلح، وأن المنحى أخذ بالاتجاه إلى أعلى، فإن الشعارات لن تقنعهم والحديث عن المبادئ والتطلعات لن تثنيهم عن دعمهم لما يعتقدون أنه خلاصهم.
الدعاية القوية لمشروع المجلس العسكري قد تؤتي ثمارا في ظل الانسداد السياسي والفشل الذريع للأجسام السياسية السيادية، من مؤتمر وبرلمان وما يتبعهما من حكومات وعجزها عن كسب ثقة الرأي العام، وربما ينجح أصحاب المشروع في التقليل من فشل عملية الكرامة بتحميل المسؤولية لهذه الأجسام المعطلة والمعرقلة.
التحدي الكبير أمام تمرير هذه المقاربة من داخل معسكر طبرق والبيضاء، تتمثل في تيار سياسي مدني، له رموزه وله مشروعه السياسي، وهم ربما يدركون أن المجلس العسكري سيلغيهم من المشهد أو يهمشهم، وتيار جهوي يدفع باتجاه التقسيم وفي خلاف ظاهر مع فكرة المجلس العسكري ومع خليفة حفتر.
أيضا فإن المجتمع الدولي لم يرفع يده عن ليون ومقاربة الحوار السياسي بعد، ويمكن أن تفشل الفكرة في حال تنكر لها الغرب، دون أن يعني ذلك إلغاءها تماما، وذلك في حال فشل الحوار السياسي الذي يعول عليه قطاع من الرأي العام، وتعول عليه أطراف خارجية، لكن لا بد أن تكون الأطراف الدولية الفاعلة مقتنعة، وتجد في المجلس العسكري ضالتها المنشودة وبديلا عن الحوار في حال فشله تماما.
ما لا يمكن أن نختلف حوله أن العسكريين كانوا دوما قادرين على فرض الأمن، أو فرض مظاهره بالعموم ولو بشكل مؤقت، وهو ما يتشبث به قطاع واسع من الرأي العام، لكنهم لا يدركون أن العسكر لم يكونوا مؤهلين في تاريخهم السياسي لتحقيق نهضة تنموية، فهذه مصر وتلك العراق وهناك سوريا واليمن، وتجربة
ليبيا تؤكد أن البلاد انحدرت من انطلاقتها التنموية في ستينيات القرن المنصرم إلى واقع سياسي واقتصادي واجتماعي متخلف، كان هذا الواقع أحد أهم أسباب انفجار الوضع فيها.
أيضا مما يغفل عنه كثيرون هو أنه لن يكون من اليسير على المجلس العسكري فرض الأمن، كما تسنى لهم خلال خمس عقود مضت لأسباب تتعلق بالواقع المتحول. وفي ليبيا يمكن أن تكون مقاربة فرض إرادة العسكر بالقوة سببا لإطالة عمر النزاع المسلح، ما لم تصاحبها مقاربة سياسية توافقية تخلق التوازن وتدمج المجموعات المسلحة في المنظومة الأمنية، ولا تصادمها كما حدث عند إطلاق عملية الكرامة منتصف العام الماضي. ونحن هنا لا نشير إلى المجموعات المسلحة المتطرفة، بل نقصد الشريحة الأوسع التي كان لها دور في نجاح الثورة كانت صمام أمان في العديد من المناطق، ووقع البرلمان وعملية الكرامة في خطأ وضعهم في سلة واحدة مع المجموعات المتشددة ووصفهم جميعا بالإرهابيين.