في حديث مر عليه زمن صعب سألني أحدهم إن كنت مع "لا للتمديد"، ولا للتمديد، شعار رفعه من عارضوا استمرار المؤتمر الوطني العام كسلطة تشريعية، باعتبار أن حسابهم وفق المدد التي حددها الإعلان الدستوري تقود إلى انقضاء عمر المؤتمر الوطني العام. وكان ردي وقتها ليس مُهِمّا عندي أن يستمر المؤتمر الوطني العام، لكن المهم هو الحذر والحكمة في رسم ملامح المسار الانتقالي، فالمؤتمر المغضوب عليه كان إفراز شريحة واسعة من الليبيين زمن الاستقرار وأن التأزيم لن يأتي بخير منه، وأن الضغوط والتشدد سيكرسان أعرافا وتقاليد ستكون من أبرز عوائق الانتقال الديمقراطي، وربما ستؤدي إلى عزوف الناس عن الديمقراطية والانتخابات والحنين إلى حكم الفرد وسطوة العسكر.
خضع المؤتمر الوطني للضغوط، وولد البرلمان بإرادة شعبية محدودة قياسا بمن انتخبوا المؤتمر الوطني، وحدث أن تكررت أخطاء المؤتمر الوطني العام وأكثر، فكانت ردود الفعل تجاهه ضاغطة ومتشددة لأن من سبقوا فرضوا تقليدا سيئا ضاغطا ومتشددا.
المزايا المالية التي تمتع بها أعضاء المؤتمر الوطني العام، والتي كانت في رأيي أحد أهم أسباب السخط الشعبي عليه، تكررت بمبالغ أكبر، وكذا التجاوزات بأنواعها والأسفار وتعيين الأقارب في مناصب مهمة في الداخل والخارج، مضاف إليها التخبط في السياسات والقرارات، فقد كرر البرلمان ما وقع فيه المؤتمر الوطني وبدرجة أسوأ.
وحدث ولا حرج عن الصراعات بين تيارات فكرية وسياسية وتضارب المواقف بين الأعضاء والتسيب والغياب عن حضور الجلسات، فإن كان النزاع أحد أبرز أسباب ضعف أو شلل المؤتمر، فهو أيضا من أبرز أسباب شلل البرلمان، فقد شكل التيار الإسلامي في نظر شريحة واسعة البعبع الذي اختطف المؤتمر واختطف الدولة من بعده، لكن الواقع لم يتغير والأداء لم يتحسن في البرلمان الذي غاب عنه الإسلاميون، وسيطر فيه عناصر محسوبة على التيارين الليبرالي والجهوي.
لقد أثبتت تجربة الانتقال من المؤتمر الوطني إلى البرلمان أن العديد من دواعي الإطاحة بالأول واهية، وأن الخلل لم يكن في أداء المؤتمر الوطني فحسب، بل في التيار النخبوي الجارف الذي غاب عنه التقدير الصحيح لأسباب الاختلال، ودفع إلى التغيير دون أن يدرك أنه سيكون تغييرا إلى الأسوأ، لأن النخبة ببساطة لم تدرك واقعها السياسي والاجتماعي والأمني بعمق، وتورطت في مواقف وممارسات غير مسؤولة بدعوى الحق الديمقراطي في المعارضة، وظنت أنه بمجرد إزاحة تيار سياسي بعينه من المشهد، سيتحقق الانتقال وتبنى الدولة وتتعافى البلاد من الظروف الصعبة التي واجهتها.
من ملامح تكرر سيناريو الفشل استقالات العديد من الأعضاء، وكنت قد اطلعت على استشارة عضو بارز في البرلمان لأصدقائه في الفيس بوك إذا ما كان الأجدى أن يستقيل من البرلمان أو يكمل المسيرة، وسؤال العضو الذي كان في مرحلة تأسيس البرلمان من العناصر المبرزة، يعكس حيرة بعد يقين، وارتباكا بعد ثبات رأيناه في مواقفه وتصريحاته في الأشهر الأولى من انطلاقة البرلمان. وعرض الموضوع على الرأي العام سيزيد الجمهور إرباكا ويعظم من تراجع الثقة في الخيار الديمقراطي، ويزيد سماء الواقع الليبي غيوما.
لقد كان من أهم نتائج المسار السياسي من المؤتمر الوطني إلى البرلمان هو فشل – أو إفشال – التجربة الديمقراطية الجديدة في
ليبيا، وفي حال تحقق ذلك فإنه سيدفع باتجاه مزيد من التأزيم، فليبيا ليست مصر التي يتحكم الجيش فيها بمقاليد الأمور ويحتكر السلطة الفعلية، حتى يمكن التفاؤل بإمكان فرض الاستقرار بالقوة. في ليبيا الجيش أضعف من أن يفرض استقرارا، وتجربة عملية الكرامة خير شاهد على ما نقول، وبالتالي فإن السلوك الذي ينجم عنه تعطيل المسار الديمقراطي إنما يعزز خيار الاحتراب ويفسح المجال لمجموعات وجماعات متشددة أيديولوجيا وسياسيا وجهويا وقبليا وإثنيا، لتفرض إرادتها بقوة السلاح كما هو مشاهد اليوم في الشرق والغرب والجنوب، ولاحظ أنه كلما تراجع حضور السلطة المنتخبة فإن الاتجاهات اللامؤسسية هي من يملأ الفراغ.
لكن الالتزام بالخيار الديمقراطي له وقته وله مناخه الصحي لكي يكون فاعلا، لذا فإن الدعوة لانتخابات برلمانية ثالثة لا يمكن أن تكون سبيلا لإخراج البلاد من أزمتها، وهي غير ممكنة للأسباب الأمنية ولعزوف الناس، وسيكون نتاجها – في ظل الاستقطاب الحاد وحيرة الرأي العام - جسما تشريعيا أسوأ من المؤتمر والبرلمان، عليه، فإن البديل الاستثنائي هو "الديمقراطية التوافقية"، أي التوافق بين المجموع العام على خيارات محددة توقف نزيف الدم والدمار وتحقق الاستقرار وتضمن استمرار الانتقال، إلى أن تتهيأ الظروف للانتخابات فتكون هي الفيصل.