صور الدمار الفظيع الذي شهدته وتشهده
بنغازي، لابد وأنه حرك عقول وقلوب كثيرين باتجاه البحث عن مخرج من هذا المنزلق الذي أوصل المدينة إلى ما وصلت إليه.
لا يشكل هؤلاء أغلبية، فهناك كثيرون يختزلون الخطر الأكبر في "الخوارج"، ويرون ضرورة استمرار الحرب وما تجره من مزيد من الدمار، والحجة أن بنغازي دُمرت في الحرب العالمية الثانية وعادت إلى زهرة شبابها، ولم يدرك هؤلاء أن دمار بنغازي اليوم لا يمكن أن يقارن بالدمار الذي حل بها على أيدي المستعمر، أو القوى الدولية المتحاربة في أربعينيات القرن الماضي، فالدمار اليوم يقع بأيدي أبنائها والقادمين إليها من المدن الأخرى، وهذا بحد ذاته كاف لتمييز ما يحدث اليوم عما حدث قبل سبع عقود، وإذا اقتصر الضرر يومها على العمران، فالتحدي اليوم في التدمير الذي لحق الإنسان والمجتمع، وغرس البغضاء والشحناء بين أهلها ومهد لتفشي التطرف الأيديولوجي والجهوي والقبلي بين أبنائها.
ولعلنا بالقطع سنوافق الداعين إلى استمرار خيار الحرب إذا كان هو آخر الدواء، لكننا لم نستنفد طاقتنا؛ فأي جهد مدني سلمي جنائي اجتماعي سياسي لمواجهة حملة الاغتيالات التي اجتاحت المدينة، وأودت بحياة المئات من الشخصيات العسكرية والمدنية البارزة، وكانت النتيجة أن مؤشر عداد الموت في تصاعد، والتشدد في توسع، ولحق ذلك صدع لا طاقة لنا برأبه في ظل التعقيدات التي صاحبت الحرب. فلم يتم مراجعة العملية التي انطلقت منذ نحو 15 شهرا بعد أن قضى فيها ما يقرب عن 5 آلاف من مقاتليها وعدد كبير منهم من خارج بنغازي، بل تستعد القيادة العسكرية بالدفع بغير ليبيين وغير مسلمين من دول الجوار، كما أكد أحد المبرزين في مناصرة العملية في بداية انطلاقها، مما يعني أن الوضع سيتجه إلى تأزيم جديد مخاطره أكبر.
ونعود لنقول بأن من يتحدثون عن مخرج يفضي إلى وقف الاقتتال ويبحث عن بديل لوقف نزيف الدم ومسلسل الدمار والحفاظ على ما تبقى من معالم وسط المدينة، إن بقي من معالمها الرئيسية شيء، ومحاولة إعادة الحياة إلى المدينة بعودة جامعاتها ومدارسها ومينائها ومطارها إلى سابق نشاطها، من يتحدثون عن هذا المخرج هم أقلية وصوتهم لا يزال خافتا، لأسباب لا تخفى، لكن الدافع لرفع صوتهم قوي في ظل الانسداد السياسي وفشل الحل العسكري.
من أبرز دواعي البحث عن طريق ثالث للخروج ببنغازي من وضعها البائس هو عدم إمكان استقراراها، حتى في حال انتصر أحد الطرفين المتحاربين، وانتصار أحدهما في المدى القصير مستبعد على أي حال. فلا الكرامة مؤهلة لإعادة الاستقرار للمدينة والانتقال بها إلى وضع نموذجي في ظل التحديات التي تواجهها من داخلها، وفي ظل تعدد أجنحتها وتعدد مراكز القوى فيها وتعدد نزوعات الأجنحة والمراكز، بالشكل الذي سيجعل المدينة ساحة صراع بينها في حال انتصارها.
الصورة ليست وردية في حال انتصر مجلس شورى ثوار بنغازي، فالمجلس لا مشروع ولا رؤية له لفرض الاستقرار في بنغازي وعودة الحياة إليها، وهو غير مقبول من شريحة واسعة من سكانها، كما أن المجلس ليس متجانسا وهناك تناقضات بين مكوناته أو بينه وبين مجموعات بات لها حضور واضح بعد حرب الكرامة في مقدمتها تنظيم الدولة، وبالتالي فإنه في حال انتصاره يمكن أن يدخل في جولة جديدة من المجابهات قد لا يكون لها نهاية قريبة.
بناء عليه فإن هناك حاجة حيوية لطريق ثالث لخروج بنغازي من واقعها المرير يشرع فيه مبرزون من أبنائها، بغض النظر عن أصولهم القبلية، ويجمعهم هدف واحد هو إنقاذ بنغازي من المنزلق الخطير الذي وقعت فيه، ويمكن أن يلتحق بهم حتى من ناصروا أحد الطرفين المتحاربين إذا قبلوا بخيار وقف الحرب واللجوء إلى التفاوض، شريطة ألا يكونوا ممن تورطوا في القتل والدمار أو حرضوا عليه، ليدفعوا باتجاه وقف الحرب ومعالجة آثارها وحلحلة أسبابها، بما في ذلك الاغتيالات والإرهاب والتطرف الذي من الواضح أنه لم يقتصر على المتشددين الإسلاميين، بل تورط فيه فريق ممن ناصروا عملية الكرامة.