كتب مالك التريكي: بعد تطرقنا الأسبوع الماضي إلى العلامة
ناصر الدين الأسد مفكرا إسلاميا، نختتم اليوم بعرض بعض الملامح في شخصيته وبعض المواقف في سيرته.
أيام في عمّان أحمد الله سبحانه أن أنعم علي باللقاء فيها مع هذا الأديب الأصيل الذي وصفته بعدئذ بأنه «قد يكون آخر العنقود من صفوة الصفوة في تاريخ الأدب العربي المعاصر». سيّد نبيل، وكاتب دقيق النظر، يقظ الضمير مرهفه إلى حد أنك إذا استشهدت له بأحد أقواله عمن عرفهم من رجالات الأدب والثقافة، استدرك بشيء من قبيل: «اللهم إني أستغفرك، أني لم أقل إلا ما كنت أحس به (آنذاك) وأعتقده».
وقد روى لي، رحمه الله وغفر له، أنه لما قصد مصر للدراسة في الأربعينيات، كانت القاهرة عهدئذ مدينة نظيفة أنيقة، حتى إن بعض الشوارع كانت ترش بالماء ورغوة الصابون! في القاهرة أتيح لناصر الدين الأسد أن يصير من أفراد النخبة التي تتلمذت مباشرة على رواد النهضة الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، من أمثال طه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك ومحمود محمد شاكر وكامل الكيلاني وشوقي ضيف وأمين الخولي وأحمد حسن الزيات. وقد كان له في وصف بعض هؤلاء الأعلام، في أثناء حوار مستفيض أجريته معه، عبارات تدل على عدم تعارض فضيلة البرّ والوفاء عنده مع دقة الحكم، بل وصرامته.
درس ناصر الدين الأسد النقد الأدبي عند أحمد أمين، إلا أنه انحاز لموقف زكي مبارك في أثناء خصومتهما الأدبية الشهيرة. وقد بدأت الخصومة بنشر أحمد أمين مقالة، بعنوان «جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي»، استفزت زكي مبارك فرد عليه بسلسلة من اثنتين وعشرين مقالة (!) بعنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي». ولبدء معرفة ناصر الدين الأسد بزكي مبارك قصة طريفة.
فقد اتصل به مع زميله ناصر الحاني يطلبان التعرف عليه، فحدد لهما موعدا في مقهى أمريكين عماد الدين، ثم قال لهما نذهب إلى المنيرة، حيث مقر مجلة روز اليوسف، فاجتمع بإحسان عبد القدوس وأعطاه آخر مقالة له للنشر في المجلة، وبعد ذلك قال لهما: أنتما ضيفاي، وأخذهما للعشاء في مطعم مشهور في التوفيقية.
فخطر لناصر الدين الأسد، في أثناء الأكل، أن يسأله عن قصيدته التي يقول فيها «تناسيتكم عمدا كأني سلوتكم، وبعض التناسي العمد من صور الودّ». فما كاد ينهي ناصر الدين الأسد البيت حتى ترك زكي مبارك الطعام وقام ينشد القصيدة بصوت عال، فانتبه من كان في المطعم وأخذوا ينصتون إليه. «كان ينشدها إنشادا فيه تطريب (..) ويبكي.
ينشد ويبكي ينشد ويبكي رحمة الله عليه». وبعد الانتهاء من الطعام طلب زكي مبارك من «ضيفيه» أن يدفعا هما الحساب! فأخذ الطالبان المسكينان يجمعان ما معهما من نقود «إلى أن يسّر الله فكان مجموع المبلغين يكفي».
أما عباس
محمود العقاد، فقد تأخر ناصر الدين الأسد في الاتصال به. لماذا؟ قال لي :"لا أكتم عنك أني كنت أتردد في الذهاب إليه لسببين؛ السبب الأول أني كنت من أشياع مصطفى صادق الرافعي (وكانت له مع العقاد خصومة أدبية شهيرة)، ولم أكن أميل كثيرا إلى العقاد (..). أما السبب الثاني فهو ما كنت أسمعه عن جهامة العقاد وجبروته. كان يلقب بالكاتب الجبار.
وكنت أخشى أن يصدر منه عند اللقاء الأول ما يجعلني أستاء منه. وكانت المفاجأة الكبرى أني حينما ذهبت إليه – وكان مجلسه قد انفض، فكان وحده – استقبلني استقبالا لم أستقبل بمثله البتة من المؤانسة والملاطفة والبشاشة والترحيب».
ولكن الصلة لم تنعقد بين ناصر الدين الأسد والعقاد، ولا بينه وبين
سيد قطب. ومعروف أن سيد قطب كان من أشياع العقاد، وأنه كان عهدئذ يعدّ الناقد الأدبي الأول في مصر، إلا أن ناصر الدين الأسد وسيد قطب تقابلا مرات، كانت إحداها في مقهى اللواء قبالة مقر جريدة الأهرام القديم في باب الخلق.
وبعدها انضم لهما صديق فلسطيني واتفقوا على الذهاب لزيارة طه حسين، كان ذلك عام 1946. تشعب الحوار في الطريق، فكان من أهم ما ذكره سيد قطب، الذي كان آنذاك قد أصدر كتابه عن «التصوير الفني في القرآن»، أنه «يعتقد أن الحفظ الغيبي للقرآن الكريم كان جناية على تأمل المعاني وتدبرها في الكتاب الكريم». ويعلق ناصر الدين الأسد بأن «هذه حقيقة استبنتها بعد ذلك، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحفظون من القرآن الكريم إلا أقلّه. ويقال إن عبد الله بن عمر قضى أربع سنوات كاملة وهو يحفظ سورة البقرة (..) كانوا يقولون إننا كنا نعمل بالقرآن الكريم قبل أن نحفظه، فمعنى هذا أن التفكير هو الأساس في الدين الإسلامي (..)».
(عن صحيفة القدس العربي 6 حزيران/ يونيو 2015)