للإدارات الأمريكية قصة سخيفة مع "الخطوط الحمر". ترسم الخط وتلوّنه بالأحمر القاني، فيراه الجميع بكل سهولة، أما هي فتبقى عاجزة عن رؤيته عجزا شنيعا شبيها بالمعجزة! إذ المعروف أن إدارة أوباما أعلنت أن استخدام السفاح الضحّاك المقهقه أبدا أسلحة محظورة ضد شعبه خط أحمر، يوجب تجاوزُه العقاب، ثم إذا بها تقرر أن تجاوزات السفاح المتكررة لا توجب أي عقاب ولا أي تدخل من أي نوع، أي إن الخط لم يعد أحمر، بل لم يعد خطا!
كما أن إدارة بايدن صدّعت الرؤوس بقول مكرور طيلة أسابيع حول نهيها إسرائيل عن اقتحام رفح، ولكنها قررت الأربعاء أن "عملية رفح لم تتجاوز الخطوط الحمر"! وبما أن هذا القرار أتى بعيد محرقة إسرائيلية راح ضحيتها عشرات الفلسطينيين الأبرياء، فإنه الدليل القاطع على أن الخط الأحمر الأمريكي مفهوم ميتافيزيقي لا يدرك بفهم ولا يبلغ بفعل. إلا أن الإدلاج السمج في ليل هذا العمى الاختياري البهيم، ليس حكرا على الإدارة، بل إن للإعلام أيضا عماه.
من ذلك أن الوول ستريت جورنال استنكرت أمر المحكمة الجنائية الدولية إسرائيل بوقف الهجوم على رفح واتهامها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فكتبت هيئة التحرير بأجمعها، إذ الشأن الإسرائيلي عندها جَلل، افتتاحية جاء فيها أن المحكمة "أغفلت الفارق الحاسم بين فريق الاغتيال وقائد الطائرة الحربية، الذي تتوقف عليه (أي الفارق) إمكانية الحرب العادلة".
والمعنى عند الجريدة العريقة أن الطيار العسكري لا يمكن أن يكون مجرما ولا يمكن أن يخوض حربا عدوانية! لهذا قالت؛ إن المحكمة أَخْزَت نفسها وحفرت قبرها بمنح حماس فترة انتصار قصيرة.
وكتبت الإيكونومست، ببرودتها المعتادة، أن "من المحتمل جدا أن إسرائيل انتهكت قوانين الحرب بإخلالها بمسؤوليتها، حسب اتفاقية جنيف لعام 1949، عن توفير الغذاء والدواء للمدنيين بأقصى ما يتاح لها من وسائل في مناطق احتلالها. كما هدد بعض الوزراء بعد 7 أكتوبر بالانتقام والعقاب الجماعي. إلا أنه لا يجوز القفز من هذا إلى القول بوجود خطة إجرامية قصدية ممنهجة لتجويع المدنيين. ولكن تلك هي القفزة التي أدّتها مزاعم كريم خان".
أما على سي. إن. إن. فقد أتى مراسل الأسوشيتد برس السابق في الشرق الأوسط دان بري بفصل الخطاب؛ أن "المواقع المدنية تُحْرَمُ حمايةَ القانون الدولي عندما يتخذها المقاتلون قواعد".
وليست هذه، كما ترى، إلا إعادة تدوير للأكاذيب الإسرائيلية، ولكن في شكل متقن من البلاغة القانونية.
وإذا كانت الصحافة الإخبارية أسيرة لعادات الانحياز الخادم للمصالح، فإن في الصحافة الفكرية مجالا أوسع لحرية الرأي ونزاهة الموقف.
استصدار أوامر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، مسعى مشروع، بل ضروري أخلاقيا.
من ذلك أن مارتن لغرو كتب في "المجلة الفلسفية"، أن استصدار أوامر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت مسعى مشروع، بل ضروري أخلاقيا؛ لأنه لا يجوز للقانون الدولي أن ينفذ انتقائيا ضد أعداء الغرب فقط. وسياسيا؛ لأن الأوان قد آن لمنع نتنياهو من الإيغال في خوض هذه الحرب بغية النجاة من المحاكمة بتهم الفساد، وعدم الكفاءة والتقصير في منع أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ويقول لغرو؛ إن الإسرائيليين اليوم أسرى لدى رجل فاسد، متواطئ مع ساسة الاستعلاء اليهودي العنصري، قادر على التلاعب بأمن بلاده، ولكن غير قادر على رسم أفق للحل، وها هو الآن مطلوب بتهم جرائم الحرب. ثم يختم الكاتب بأن الوضع أزمنَ ولم يعد يطاق، وأن على الإسرائيليين أن يجدوا في مرآة القانون الدولي ما يعينهم على وضوح الرؤية واستفاقة الوعي.
أما المقال الذي نشرته "النيويورك ريفيو أوف بوكس" بعنوان "هل إن إسرائيل بصدد ارتكاب جريمة إبادة؟"، فإن أهميته تكمن بداءة في أنه بقلم أرييه ناير، أحد الناجين من المحرقة النازية والمشاركين عام 1978 في إنشاء منظمة "هيومان رايتس ووتش".
إسرائيل شنت الحرب وهي مبيّتة نية الإبادة.
ورغم أن المجلة حرصت على أن يأتي العنوان بصيغة الاستفهام، فإن جواب ناير جازم بكل وضوح: لم أكن أعتقد ذلك في البداية، أما الآن فأنا موقن أن إسرائيل شنت الحرب وهي مبيّتة نية الإبادة! ومما يعزز قيمة حكم ناير، أنه شرح أنه ومعظم رفاقه المناضلين في حركة حقوق الإنسان العالمية، لا يستخدمون كلمة "الإبادة" إلا نادرا، حيث لم تطلقها هيومان رايتس ووتش إلا على ثلاث فقط من جرائم كثيرة: مذبحة أكراد العراق عام 1988، ومذبحة التوتسي في رواندا عام 1994، ومذبحة الروهينغا في ميانمار بداية من عام 2016.