منذ أواخر العام الماضي ووسائل الإعلام تنبّه إلى أن 2024 سيكون عاما استثنائيا؛ لأنه سيشهد تنظيم انتخابات عامة في عشرات من الدول التي يبلغ مجموع تعداد سكانها حوالي أربعة مليارات نسمة، أي أكثر من نصف الإنسانية جمعاء.
ولكن ما لا يكلف معظم الإعلام نفسه عناء التنبيه إليه بالقدر ذاته من الوضوح (ربما لأنه يرى أن الأمر بديهي وبيّن بذاته)، هو أن معظم هذه الانتخابات قد كانت محسومة سلفا، وأن نتيجتها معلومة قبل وقوعها؛ لأن الانتخابات التي تفبركها أنظمة
الاستبداد، تحت شعار «العرس الديمقراطي!»، هي مجرد شعيرة بروتوكولية وموعد ثابت في الرزنامة، مثل بقية المواعيد التي تتساوى قيمتها في حال الوجود مع قيمتها في حال العدم. مواعيد مثل العيد الوطني، ويوم الجيش، ويوم الشباب، ويوم المرأة، ويوم الشجرة، ويوم الرفق بالحيوان، إلخ.
ولهذا، فإنه لم تعقد انتخابات حقيقية في أفريقيا هذا العام إلا في السنغال وجنوب أفريقيا. أما في آسيا، فلم يكن للانتخابات من معنى إلا في تايوان، وبعض من معنى فقط في الهند. وقد كانت الهند تنعت في الماضي بأنها أكبر ديمقراطية في العالم.
«أكبر»؛ لأنها بلد ملياريّ السكان منذ عقود. و«ديمقراطية»؛ لأن الهند مواظبة منذ الاستقلال على تنظيم انتخابات نزيهة في العموم، أي إن نتيجتها لم تكن معلومة مسبقا رغم استفحال الفقر، ورغم انتشار الفساد (حتى في عهد أنديرا غاندي). ولكن ديمقراطية الهند تنحصر في صناديق الاقتراع، أي إنها غير مستنيرة بثقافة المساواة في الحقوق والحريات.
فما هو الجديد الديمقراطي هذا العام؟ كان معلوما سلفا أن حزب مودي سيفوز بالأكثرية (إذا لم يستطع الفوز بالأغلبية). ولهذا فإن بعض المعنى الذي تسلل إلى الانتخابات، قد نتج عن مجرد أن هذه الأكثرية قد أتت أضعف من المتوقع.
الانتخابات التي تبقى ذات معنى وأهمية، فهي تلك التي جرت، وستجري، في الدول الغربية.
أما الانتخابات التي تبقى ذات معنى وأهمية، فهي تلك التي جرت، وستجري، في الدول الغربية، مثلما حصل في انتخابات البرلمان الأوروبي، وفي بريطانيا، وفي فرنسا (ولو أن انتخاباتها البرلمانية لم تكن مبرمجة، وإنما أتت نتيجة لمقامرات ماكرون الطائشة)، ومثلما سيحصل في
الولايات المتحدة.
وكان الرأي عندي منذ انتخابات 1984 التي فاز فيها رونالد ريغان بولاية ثانية، أن المنطق يقتضي ألا يقتصر حق الاقتراع في الانتخابات الأمريكية على الأمريكيين، بل أن يشمل جميع سكان المعمورة.
لماذا؟ لأنها الانتخابات الوحيدة التي لا ينحصر أثرها في حدود بلادها، وإنما يمتد إلى أغلب البلدان الأخرى.
فقد كان التأثير الأمريكي في العالم، حتى في أثناء المنافسة مع الاتحاد السوفييتي، قويا نافذا. أما الآن فهو أكثر قوة رغم ما يبدو من تراجع نسبي لدور الولايات المتحدة بسبب الطبيعة الانتقالية لمرحلتنا التاريخية هذه. ويبدو لي أن تأثير الناخب الأمريكي في مصائر بقية البشر خارج الولايات المتحدة، قد تجلى في أوضح صورة في أثناء رئاسة
ترامب.
إذ إن اختيار الأمريكيين لرجل غريب الأطوار يجمع بين الجهل المطبق والنرجسية العمياء، قد كان له أثر وخيم على العالم، من فلسطين إلى إيران فالجزائر والمغرب وقطر، ناهيك عن أوروبا.
كفى ترامب فخرا، أن نتنياهو يترقب بلهفة عودته للبيت الأبيض.
وكفى ترامب فخرا أن نتنياهو يترقب بلهفة عودته للبيت الأبيض، بينما لا تزال الاستطلاعات تبين أن الرأي العام الإسرائيلي يحبذ ترامب ويعدّه أصدق الأصدقاء (فَيا لَخيبةِ مسعى بايدن عقب كل ذلك الوَلَه الصهيوني بالحبيبة الجاحدة وبأمنها وحقها في الدفاع عن النفس!).
وقد لفتني أخيرا تعبيران رشيقان عن الأثر العالمي للانتخابات الأمريكية. أحدهما لتيموثي غارتن آش. قال؛ إن «انتخاب» الرئيس الصيني والانتخابات الرئاسية الروسية هذا العام، لم يكن لهما بالنسبة لبقية العالم أي معنى. أما ترامب، فهو خطر على العالم بقدر ما هو خطر على بلاده؛ لأن الدستور الأمريكي يدجج الرئيس بصلاحيات شبه ملكية، ولأن الانتخابات الأمريكية هي في الحقيقة انتخابات عالمية. ولكن المفارقة، أن مستقبل العالم بأسره، ربما يتوقف على مدى سخط بضعة آلاف من ناخبي بنسلفانيا على غلاء مشترياتهم من بقالة ومواد غذائية!
أما فولفغانغ إيشنغر، فقد قال؛ إن وجه الطرافة في أن تكون أوروبيا في أثناء أي انتخابات رئاسية أمريكية، هو أنك تعتقد أنه يحق لك أنت أيضا أن تدلي بصوتك! ثم خاطب الأمريكيين قائلا: فهل لكم أن تعتبوا علينا؟
إن اختيار الشخص الذي سيجلس في المكتب البيضاوي، قرار ذو أهمية وجودية بالنسبة لأوروبا ولأمنها وراحة بالها.
القدس العربي