كتب

وضّاح خنفر وقراءته السياسية والاستراتيجية في السيرة النبوية.. كتاب ومسار

في هذا الكتاب كان وضّاح وفيّا غاية الوفاء لتخصّصه بنفَسٍ "مهدويّ"، وهو النّفَسُ نفسُه الذي يتجلّى واضحا في كلّ محاضراته وندواته ومتابعاته للأحداث؛ فكلّ شيء عنده ينسلك، وبسلاسة، ضمن الاستراتيجيات..
حينما ولد وضّاح خنفر في جنين، لم يكن قد مرّ سوى عشرين عاما على النّكبة، وعام واحد على النّكسة، وأربع سنوات على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. وفي المقابل، لم يكن عمره قد تجاوز الخامسة والعشرين عندما انطلقت سلسلة من الأحداث المفصلية من قبيل حرب الخليج الثانية وسقط الاتحاد السوفييتي وعقد اتفاق أوسلو، أمّا الثّورة الإيرانية فقد داهمت المنطقة والعالم ووضّاح بالكاد يحتفي بتجاوز عقده الأوّل. وإنسان يأتي إلى الدّنيا، ويحضر فيها، وهو محكوم بمثل هذا التاريخ وهذه الجغرافي لاشكّ أنّه يمتلك ـ طبيعيا ـ دافعا كبيرا ليكون صاحب تكوين ووعي وقضيّة، يبقى المعوّل بعد ذلك على القابلية والإرادة، ويبدو أنّ هذه العناصر اجتمعت كاملة، وبشكل مثاليّ تصلح لتكون نموذجا لدراسة حال، في شخصية وضاح خنفر ومساره.

درس الهندسة والفلسفة والسياسة، وانخرط في تجربة طلابية ثريّة؛ على المستوى النقابي والسياسي، ويبدو أنّ وضّاحا، كما هو عليه اليوم، اشتعلت فتيلته خلال هذه الفترة من عمره. دخل، بعد ذلك، غمار الإعلام من باب كبير؛ من الجزيرة، بدأ معها مراسلا، فمقدّما لبرنامج، ثمّ ـ وبشكل غير متوقّع ـ مديرا للقناة، فمديرا عاما للشّبكة. وهنا تمّ الإعلان بشكل "رسمي" عن ولادة وضّاح الخبير والقائد التخصصي، وسنضطرّ للانتظار بضع سنين، إلى ما بعد مغادرته الجزيرة، ليتمّ ترسيمه مفكّرا استراتيجيا.

نال جوائز، واختير من قبل مؤسسات دولية معتبرة، من ضمن كوكبة المفكرين العالميين والمؤثّرين في السياسة ومجرياتها في العالم العربي. استُقبل من طرف البيت الأبيض ووزارة خارجيته وكذا وزارة دفاعه، وأتيحت له مناسبات عدّة ليدافع عن تقديراته في منتديات دولية ذات شأن وتأثير.

برزت إبداعيته بشكل لافت في "الاستراتيجيات"، حتى إنّه ما كاد يخرج من الجزيرة، بعد ريادة وعطاء يشهد له بهما الجميع، حتى أسّس "منتدى الشّرق" ليكون منبرا يهتمّ بتطوير استراتيجيات طويلة الأجل للتنمية السياسية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي في البلاد العربية. وعبر أثير هذا المنتدى وصورته أخذ "يُبشّرُ" بتقييماته ورؤيته واستشرافاته، وجعل ـ في الكثير من الأحيان ـ السيرة النبوية ووقائعها متّكأ له في ذلك ومسندا، وقد فعل ذلك باحتفائية كبيرة تليق ـ حسب لائحة وضعها آخرون ـ بمن يقف شامخا على رأس العظماء؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

"الرسالة التي حملها النّبي صلى الله عليه وسلم كانت هي المركز الفعلي لكلّ حركاته وسكناته، وهذه الرسالة هي التي ولّدت في تفاعلها مع الواقع الاستراتيجي والسياسي منهجا مختلفا عن المناهج التي عهدها العالم سابقا". لقد "جاءت الرسالة لتقدّم عالمية إسلامية جديدة، وتُطلق عهدا من تحرير الإنسان، وكسر أغلال الاستبداد والتّسلّط والاحتكار".
نُشر له لحدّ الآن، كتابان: الثاني أصدره عام 2021م تحت عنوان "في ضيافة النّبي"، وهو عنوان جميل ومعبّر ومشحون، ولكن في تقييم الذي اطّلع على الكتاب، أما الذي لم يكتشفه فهو سيبدو له مكرّرا، ويوحي أنّه متن في السيرة النبوية سيلخّص صاحبه ما سبق وأن قاله في كتابه الأوّل الموسوم بـ "الرّبيع الأوّل"، الذي ظهر قبل ذلك بعام، وكلاهما عن دار جسور للترجمة والنشر.

في "الرّبيع الأوّل"، الذي جعل له عنوانا ثانويا ولكنّه ضروري، لأنّه بدونه لا يمكن للقارئ أن يتكهّن بالمضمون الحقيقي للكتاب ولا للمنظار الذي يعتمد عليه، أو أنّه كان سيفهم أنّه كتاب شبه رومانسي حول السيرة النبوية. والحاصل أنه فعلا كتاب في السيرة النبوية، ولكنّه "قراءة سياسية استراتيجية". في هذا الكتاب كان وضّاح وفيّا غاية الوفاء لتخصّصه بنفَسٍ "مهدويّ"، وهو النّفَسُ نفسُه الذي يتجلّى واضحا في كلّ محاضراته وندواته ومتابعاته للأحداث؛ فكلّ شيء عنده ينسلك، وبسلاسة، ضمن الاستراتيجيات، وهو يتقن التّبشير بتخصّصه وكذا بتقديراته، وإن فعل ذلك، في بعض الأحيان، بإفراط لا تُخطئه الأذن.

يقع الكتاب في قرابة الأربعمائة صفحة. أهداه ـ تقريبا ككلّ فَرح بكتابه الأوّل مُحبّ لعائلته، إلى والده، ووالدته، وزوجته، وأبنائه، ثمّ إلى كل "الساعين لربيع جديد". والده ـ كما يقول وضّاح ـ هو من زرع في نفسه حب السيرة النبوية، وهو نفسه من حثّه على قراءتها في مصادرها الأولى منذ كان طفلا في الابتدائي. وإنّه لحثٌّ شريف أتى ثماره يانعا، ولا شكّ أنّ الوالدَ اليوم ـ رحمةً من الله ـ سيكون سعيدا بمسعى ابنه وبقطفه.

بنية الكتاب دائرية؛ يبدأ بمشهد الهزيمة النهائية لقريش وانتصار الإسلام، وهو نفس محتوى الفصل التّاسع عشر، ما قبل الأخير، والمعنون بـ"الفتح الأكبر". وهذه التقنية استدعاها وضّاح بالخصوص من عالم الرواية والسينما، وقد استطاع بواسطتها، ضمن عناصر كثيرة أخرى، أن "يعتقل" قارئه، بشكل ممتع ومفيد، ضمن الدّائرة التي صنعها واستطاع أن يمسك بتلابيبه دون أن يترك له أي فرصة لـ"الهروب" إلا حين أرسله طواعية، مع الفصل العشرين، ليستكشف "الخير الذي يسكن المستقبل". ولئن كان أستاذنا وضّاحا قد اختار هذه البنية، بكل هذه التفاصيل، عن سابق إدراك ووعي، ولم يكن النّاقد، كاتب هذه المقالة، هو من اكتشفها، لهو النبيه اللبيب حقا!

نظرة خاطفة على مراجع الكتاب توضّح أن الكاتب أراد أن يكون "أصيلا" في كلّ ما يودّ أن يقوله ويستخلصه؛ فلم يشأ، وهذا ما يتأكّد للقارئ فيما بعد، أن يكون عالة على أحد من القراء المعاصرين للسيرة النبوية، وهو مسعى خاضه وضّاح بكثير من الثقة تليق بالخبراء الاستراتيجيين، وقد تمكّن فعلا، وباقتدار شديد، أن يطرق أبوابا لم يسبق ـ حسب علمنا ـ أن طرقها غيره، ناهيك على ولوجها كما فعل هو، تماما كما يصنع الفاتحون.

في المقدّمة احتفى وضّاح ببعض الشخصيات الاستثنائية في التاريخ البشري، هؤلاء الذين ـ كما يقول ـ "أعادوا رسم خرائط العالم وبدّلوا موازين القوة الاستراتيجية"، ورغم أنّ الغايات والأهداف فرّقتهم، إلا أنّ سمات مشتركة جمعتهم، وقد خلّدهم التّاريخ "لأنّهم قاموا بأعمال أدّت إلى تغيير واقع أممهم، وأحيانا الواقع العالمي"، مثال ذلك: داريوس الأوّل، الإمبراطور الفارسي الملقب بالكبير، والاسكندر المقدوني، الملقب بالأكبر، ويوليوس قيصر، الإمبراطور الروماني، وجيستنيان الأول، الإمبراطور البيزنطي الملقب ـ أيضا ـ بالكبير. كلّ هؤلاء انتهجوا "نهجا مشتركا، قوامه الفعل العسكري الذي أدّى إلى تعزيز السلطة وتعظيم الثروة، مع انتماء قومي أو امبراطوري محددي. ولكن النّبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البعد الاستراتيجي، باعتباره سيّد العظماء، وانطلاقا من منطلقات ومنهج وبُعد مختلفة بشكل كامل "حقّق انقلابا عالميا سريعا وجذريا" غير مسبوق.

وقد التقط الكاتب، وهو ينشئ كتابه، حادثة رمزية تاريخية جدّ معبّرة؛ حين اختلفت اليونان ومقدونيا حول مَن له الأحقية في الانتساب للإسكندر الأكبر؛ لقد اتهمت الأولى الثانية بمحاولة السّطو على أحد أشهر رموزها، واستخدمت كل ما تمتلكه من وسائل ضغط سياسية واقتصادية؛ من قبيل عرقلة انضمامها للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وعدم الاعتراف بجواز سفرها، لتُثنيها عن استغلال رمز تعتبره حكرا عليها. ولم تُحلّ المسألة حتى غيّرت من اسمها نحو "جمهورية شمال مقدونيا".

يقع مدخل الكتاب في ثلاث عشْرة صفحة، وَسَمه بـ"الرسالة والمنهج"، وفيه حدّد مراجعه، وموقفه منها، وكيفية تعاطيه معها، ثمّ وقف عند ما سماه بـ"مبادئ المنهج الاستراتيجي النبوي"، والتي أجملها في تسعة: أنّ هذا المنهج ذو سمة أخلاقية إصلاحية. وأنّه لم يكن استئصاليا. وتميّز بالتّفاؤل العميق والتّطلع الدائم نحو المستقبل بدل الانغماس في ضيق اللحظة الراهنة. وأنه كان مبادرا، من أجل ذلك يرفض أن يبقى متقوقعا في المربع الذي يحدده خصومه، فكان يفاجئ الجميع ويخطو الخطوة التالية، فتربك خطوته المشهد وتضع أعداءه في حالة رد الفعل. وأنه لم يسمح لجبهته الداخلية بالتّشظي والانقسام؛ فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصا على تماسك الصف وتوثيق التحالفات وبناء الائتلافات. وأنّه كان حريصا على عدم مواجهة الأعداء مجتمعين. وأن استراتيجيته كانت مرنة ومتعدّدة الوجوه، تتنوّع بين القوة الصلبة والقوة النّاعمة. وأن التزامه بالأولويات كان صارما.

الإنسانية اليوم تبحث عن مستقبل جديد، ونحن لدينا مخزونا هائلا من القيم والمناهج، ونأمل أن نكون سبل الهداية للنّاس أجمعين، إن أحسنّا توظيف هذه القيم وهذه المناهج، خاصة وقد انفتحت نافذة في موازين القوى الاستراتيجية.
لا يملّ الأستاذ وضّاح في كتابه من التأكيد على أنّ "الرسالة التي حملها النّبي صلى الله عليه وسلم  كانت هي المركز الفعلي لكلّ حركاته وسكناته، وهذه الرسالة هي التي ولّدت في تفاعلها مع الواقع الاستراتيجي والسياسي منهجا مختلفا عن المناهج التي عهدها العالم سابقا". لقد "جاءت الرسالة لتقدّم عالمية إسلامية جديدة، وتُطلق عهدا من تحرير الإنسان، وكسر أغلال الاستبداد والتّسلّط والاحتكار".

آخر عنوان جانبي في الكتاب هو "الهجرة نحو المستقبل"، وفي ختامه يؤكّد الكاتب أن الإنسانية اليوم تبحث عن مستقبل جديد، ونحن لدينا مخزونا هائلا من القيم والمناهج، ونأمل أن نكون سبل الهداية للنّاس أجمعين، إن أحسنّا توظيف هذه القيم وهذه المناهج، خاصة وقد انفتحت نافذة في موازين القوى الاستراتيجية.

أخيرا، وليس آخرا؛ في هذا المتن الممتع والمفيد، الذي أنصح بقراءته بالورقة والقلم كما يُقال، فالمُهتمّ لا يُلاقي بسهولة وليمة "فَهميّة" تُشبهه، أو حتى قريبة منه، استطاع الأستاذ وضّاح أن يُبدع ويسجّل اسمه ضمن لائحة المفكّرين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين الأفذاذ. ورغم أنّه نَظَر إلى وقائع السيرة النبوية وما سبقها من أحداث محلّية و"إقليمية" ودولية بمفاهيم ووعي معاصرين، وهو ما كاد يضرّ بالكتاب لولا براعته الرؤيوية والمنهجية وكذا الأسلوبية، فإنّه أقنعنا بـ"علمية" مسعاه، وهذا لا يستطيعه سوى المقتدر.

وفي جملة خفيفة تناسب هذا الذي أردته نفيرا حثيثا لقراءة الكتاب فإنّ الكتاب فريدٌ في بابه، ولا أعتقد أنّ أحدا سبقه للكثير مما جاء به، ولو جاز لي أن أنصح أستاذنا وضّاحا نصيحة شكلية لطلبتُ منه أن يضغط على دار النّشر لتُغيّر، في الطبعة الموالية، صورة الغلاف، لأنّها، أبدا، لا تعبّر عن قيمة الكتاب وفخامته المعرفية، بل وربّما كانت مما يُزهّد فيه، خاصة ونحن نعي قيمة المظهر في الزّمن المعاصر.