كتب

ماذا يخسر المجتمع والديمقراطية إذا لم يعد الدين يلعب دورًا فيه؟ قراءة في كتاب

ما هي فائدة الدين لمستقبلنا كديمقراطية؟ وهل من الحكمة حقًا أن نتخلى عن كنز الدين الغني بالأفكار؟
الكتاب: "الديمقراطية تحتاج للدين"
المؤلف: هارتموت روزا
الناشر: كوسيل، الطبعة الأولى، 2022
تقديم الكتاب: غريغور جيسي
عدد الصفحات: 80

لعلَّ من إنجازات الحداثة أنها أخرجت الدين والإله من مركزية الكون ووضعت الإنسان بدلا منه، حيث تموضع هذا الإنسان ـ الكائن الخيّر والعقلاني ـ بوصفه الحاكم المُهيمن القادر صاحب السيادة والجلالة والقدرة. ولكن كان لهذه الحداثة وما ترتب عنها أبعاد كارثية كثيرة بحسب الكاتب الذي نتناول دراسته هنا. فالحداثة نظَّرت لكي تجعل كل شيء مُتاحا للبشر مِثل الترفيه والحصول على المعلومات والتغلب على المسافات وتحقيق الحد الأقصى من المتعة وغير ذلك من غايات البشر وأحلامهم، ولكن كان لذلك في المقابل تكاليف باهظة لعل من أهمها الشعور بالاغتراب الذاتي وانعدام الصلة بأي شيء من حولنا. عالم السياسة هارتموت روزا، كتب عددا من الكتب في هذا الشأن، على سبيل المثال، كتابه "انعدام الوفرة" والذي يوجه فيه نقدا لاذعا للحداثة ويوضح الاغتراب الذي نتج عنها.

يَطرح عالم السياسة والاجتماع الألماني الشهير هارتموت روزا بصفته واحدًا من أبرز المفكرين في الجيل الرابع من مدرسة فرانكفورت، والتي تشتهر بنقدها للرأسمالية والسلطة. سؤالَا مركزيًا حول: ماذا يخسر المجتمع، وماذا تخسر الديمقراطية إذا لم يعد الدين يلعب دورًا فيه؟ وما هي فائدة الدين لمستقبلنا كديمقراطية؟ وهل من الحكمة حقًا أن نتخلى عن كنز الدين الغني بالأفكار؟

الحداثة أفقدت البشر القُدرة على الشعور القلبّي فأصبح الشخص يسمع بالأذن ولا يَسمع بالقلب. هذا الشعور أخرج الصفة البشرية عن طبيعتها بالإحساس القلبي وأنتج إنسانا مُغتربًا وغير متصل بأي شيء وعلى كل الأصعدة. ا
في الكتاب الذي بين أيدينا، وهو بالأصل مُحاضرة مُطولة تحولت لكتاب، يعود المؤلف مجددا للنقد الحاد والمعتاد للحداثة الغربية والأزمات التي أنتجتها بالغرب والعالم بشكل عام. في هذا الكتاب يركز الكتاب على موضوع الديمقراطية وفشلها ومشاكلها في الغرب. ويطرح سؤالًا غير مُعتاد في السياق الألماني على الأقل وهو: هل ديمقراطيتنا بحاجة للدين؟ وهذا بطبيعة الحال سؤالٌ مُستفز إلى حد ما لكثير من علماء السياسة وعلم الاجتماع بالغرب، فالدين شيء من الماضي والتقدم والحداثة تسير بحسبهم باتجاه معاكس. لكن في هذا الكتاب تأتي المجادلة الرئيسية للمؤلف ضمن سياق يطرح حاجتنا للدين لكي تكون ديمقراطيتنا ـ في الغرب ـ أفضل مما هي عليه في الوقت المعاصر.

السياسي الألماني المرموق والكاتب جريجور جيسي يُقدم لهذا الكتاب. يُصرح جريجور جيسي أنه كشخص لا يؤمن بالله لكنه يحذر في نفس الوقت من أن النقد للدين يجب أن لا يطغى على كل الأفكار الدينية السلمية والتي يمكن الاستفادة منها. بل يقول: إنه وفي الوقت الراهن، الأديان فقط هي القادرة على تشكيل الأخلاق والقيم الأساسية بطريقة مُلزمة في المجتمع. 

يوضح هارتموت روزا في بداية كتابه أن الحداثة أفقدت البشر القُدرة على الشعور القلبّي فأصبح الشخص يسمع بالأذن ولا يَسمع بالقلب. هذا الشعور أخرج الصفة البشرية عن طبيعتها بالإحساس القلبي وأنتج إنسانا مُغتربًا وغير متصل بأي شيء وعلى كل الأصعدة. المُجتمع الحداثي بحسب الكاتب مُجبر على الاستمرار بالتحسن والتطوير والصعود، والتسريع والمضي قدمُا لدرجة أنه فقَد الإحساس بالمعنى الحقيقي للتقدم. لذا، فالجميع في حالة أزمة مستمرة، والكاتب يسأل هنا، هل بهكذا مُجتمع مأزوم نحن بحاجة للدين والكنيسة؟ الكثيرون بحسب الكاتب لا يريدون أن يكون للدين والكنيسة أي دور بالسياسة. لكن الكاتب يسأل، إذاً لماذا نعطل يوم الأحد - اليوم المُقدس عند المسيحيين - ولماذا يتم تدريس مادة دينية كاثوليكية في المدارس في ألمانيا؟! يطرح الكاتب مثل هذه الأسئلة ليقول: إن للدين دورًا في المجتمع الألماني.

يؤكد الكاتب أنه يؤمن بأن الدين يلعب دورًا في حياة البشر وذلك ببساطة لأن الدين لديه ما يُقدمه للمجتمع. لكن قبل ذلك يوضح هارتموت روزا كيف أن المجتمع الحداثي وقَعَ في أزمات عميقة ومُعقدة. فهو يقول: حتى يكون المجتمع حداثيًا فإنه يجب علينا تحقيق النمو الاقتصادي المُستمر، وزيادة الإنتاجية باستمرار، والسعي لتحقيق الابتكار المستمر في المنتجات والعمليات. هذا يعني، التحسين والنمو المُستمر وبشكل منهجي وهيكلي من أجل بناء المُجتمع والحفاظ عليه وعلى الوضع المؤسسي القائم. والسؤال بالتالي، في أي مجال أو مجالات نريد أن ننمو بالضبط؟!

يُجادل الكاتب أن كل الاحتمالات التي تُقترح للتطوير لها آثار سلبية على المُجتمع، على سبيل المثال، قد يقول أحدهم لنركز في ألمانيا على تصنيع الحواسيب والشرائح الذكية، ولكن الكاتب يقول: كل عامين نقوم بألمانيا برمي مليارات من الأجهزة فقط للتحديث ولهذا عواقب بيئية كارثية على الأرض والبيئة. وبالتالي ليس من العقلانية أن نستثمر في هكذا مجال. وخلاصة القول هنا، إن التطور والنمو لأجل النمو يُشكل خطرًا وإشكالًا كبيرًا على البشر والبيئة، حتى لو قلنا جدلاً لا نريد النمو والتطوير فإن ذلك أيضا سوف يؤسس لمشاكل اقتصادية وانهيارات وزيادة البطالة، لذلك، يمكن القول: إن المجتمع الحداثي وقع في فخ من الصعب الخروج منه بحسب الكاتب.

يبين الكاتب أن منطق المؤسسات الاجتماعية أيضا يخلق بشكل منهجي علاقة عدوانية مع العالم. فالإنسان عليه تطوير نفسه بشكل مُستمر وعليه تعلم مهارات جديدة بكل عام وعليه أن يزيد من إنتاجه مع مرور الوقت وبدون توقف، بعبارة أخرى، قائمة المهام اليومية تزداد يوما بعد يوم وبلا حدود، هذا يؤثر علينا جسديا ونفسيا، فيصبح الإنسان الحداثي عدواني تجاه الآخرين. حتى في الحوارات السياسية يكون شديد العدوانية. الأمر المثير للقلق بشأن الديمقراطيات هو أن الفرد لم يعد يَنظر إلى الآخر على أنه مُجرد شريك سياسي في الحوار وأن علينا التعامل والتفاعل معه وسماع رأيه، بل نتعامل مع الآخر باعتباره عدوا مقززا يجب إسكاته وإقصائه بشكل كامل. ولذلك يوصف الآخر في ألمانيا  ـ على سبيل المثال ـ إما أنه نازي أو خائن للوطن.

هذه العلاقة العدوانية تجاه العالم، والتي تأتي من الضغط المستمر من أجل الزيادة، والنمو والتي ليس لها نهاية على الإطلاق لأنه لا يمكن تهدئتها أبدًا ولا يمكن الشعور بالرضا في ظلها، تنعكس على السياسة وتترجم إلى أنماط حياة فردية ومتشائمة وسلوك عدواني. في ظل هذا الوضع التعيس للإنسان الحداثي يسأل الكاتب لماذا تحتاج الديمقراطيات للدين. يقول هارتموت روزا أن الدين يحتوي على العناصر التي يمكن أن تذكرنا بأن العلاقة مع العالم والآخر؟ مُختلفة عن تلك التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية والإنتاج وزيادة الإتاحة.

الدين بحسب الكاتب يتمتع بالقوة والتأثير، فهو يمتلك مَخزونًا من الأفكار وترسانة طقوسية مليئة بالأغاني والترانيم والإيماءات والمساحات الملائمة التي يتفاعل بها الفرد مع نفسه والمجتمع. الدين يحتوي أيضا بحسب الكاتب على التقاليد والمُمارسات التي تُشكل لدى الفرد إحساسًا بالشعور بأنه غير مُغترب عن المجتمع والذات. ولهذا فالدين يُعطي معنى للحياة غير ذلك المَعنى الذي تُقدمه الحداثة.
الدين بحسب الكاتب يتمتع بالقوة والتأثير، فهو يمتلك مَخزونًا من الأفكار وترسانة طقوسية مليئة بالأغاني والترانيم والإيماءات والمساحات الملائمة التي يتفاعل بها الفرد مع نفسه والمجتمع. الدين يحتوي أيضا بحسب الكاتب على التقاليد والمُمارسات التي تُشكل لدى الفرد إحساسًا بالشعور بأنه غير مُغترب عن المجتمع والذات. ولهذا فالدين يُعطي معنى للحياة غير ذلك المَعنى الذي تُقدمه الحداثة. يؤكد الكاتب في النهاية على أنه إذا فقد المجتمع الدين، إذا نُسي هذا الشكل من المشاركة والتفاعل الموجودة في الممارسة الدينية، فهذا يعني أن هذا المُجتمع سوف ينتهي ويتلاشى.

لا شك أن الكتاب يطرح مُوضوع في غاية الاهمية، لكنه وبكل وضوح عندما يَستخدم الكاتب مفهوم الدين فهو يعني الديانة المسيحية والكاثوليكية تحديدا. رغم أن هارتموت روزا من أهم علماء السياسة وعلم الاجتماع في ألمانيا، إلا إنه يمكن القول: إن مَفهوم الدين لديه سطحي وضيق ومَحصور بالمسيحية وبعض الطقوس فيها.

لا شك أن في الديانة المسيحية لها تراث ومنظومة أخلاقية إلا أن الكاتب تعامل مع الدين من منطلق نفعي. بحيث يمكن القول: إن وجود الدين وجود نفعي في المجتمع بالنسبة للكاتب. وهذا إصرار منه على الالتزام بالعلمانية الحديثة وفكرها مما قد يضعف نقده لها، حيث أن الدين يبدو بحسب الكتاب مُسكن أو دواء مُنشط وليس علاجا ناجعا للأزمات التي تمر بها الديمقراطيات في الغرب تحديدا. وبالتالي فإن المؤلف يقترح علاقة سطحية بين الديمقراطية والدين. فعلى سبيل المثال، لو بحثنا هذا الموضوع من منظور إسلامي، فهناك منظومة أخلاقية واسعة وعميقة من الأخلاق والمبادئ والأنظمة التي تحكم التعامل الاجتماعي والسياسي. مثلا: مفهوم الأمانة الذي يدل الإنسان على فهم عميق لكيفية أنه مُستأمن على نفسه ووقته وصحته وبيئته وعلاقته مع الآخر وما يبنى على ذلك من تصرفات وقواعد حاكمة للسلوك الإنساني، يبقى أن نقول في النهاية أن نقد هارتموت روزا للحداثة والإنسان الحداثي، والغرب وما آلت إليه الديمقراطية بالغرب هو نقد مُهم وعَميق وتجدر دراسته بشكل متأني ودقيق.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة اسطنبول صباح الدين زعيم.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع