لم يكن مفاجئاً ذلك التراجع الذي مُنِي به حزب العدالة والتنمية
وزعيمه رجب طيب أردوغان في
الانتخابات البلدية التركية التي جرت يوم الأحد 31 آذار
2024، بحصوله على 35.6% من أصوات الناخبين، متراجعاً عن نتيجته في انتخابات
عام 2019 التي كانت 44.3%، وحلوله في
المركز الثاني لأول مرة في تاريخه منذ ربع قرن، فقد كان ذلك متوقّعاً، وكلّ
الدلائل كانت تشير إلى تراجع شعبية الحزب وعدد مؤيّديه، لأسباب موضوعية عديدة،
لكنّ المفاجأة كانت في حجم هذا السقوط المدوّي، ثمّ في ذلك الفوز التاريخي الذي لم
يحقّقه حزب الشعب الجمهوري منذ عام 1977 بحصوله على 37.8% من أصوات الناخبين،
متقدّماً بـ 7.7% من الأصوات عمّا حقّقه عام 2019، فضلاً عن صعود حزب "الرفاه من جديد"،
ذي الخلفيّة الإسلامية، وحصوله على 6.2% من الأصوات، وهو الحزب الناشئ الذي لم يسجّل
له، منذ نشأته، أي تأثير اجتماعي أو نجاح سياسي أو فوز انتخابي، سوى دخول البرلمان
بخمسة مرشحين على أكتاف حزب العدالة والتنمية.
عوامل هزيمة العدالة والتنمية
يمكننا القول دون تردّد: إنّ
نتائج الانتخابات البلدية الحالية
تتعلّق بأخطاء الحزب الحاكم أكثر من تعلّقها بنجاحات المعارضة، التي لم تقدّم
لتركيا شيئاً يُذكر في السنوات العشر الأخيرة، سوى التجربة الناجحة لمنصور ياواش
في رئاسة بلدية أنقرة، وهي عملية تراكمية يمكننا رصدها في الإخفاقات التالية:
ـ العامل الاقتصادي:
كان للعامل الاقتصادي الأثر الأكبر في تشكيل
مزاج الناخب التركي، إذ بعد اكتشاف النفط واستغلال موارد الغاز الطبيعي، وتطوير
صناعة الأسلحة، وتنشيط قطاع السياحة، والزيادات الهائلة في حجم الصادرات التركية،
ساهمت سياسات أردوغان في انتعاش الاقتصاد التركي، وتحسين وضع الليرة إلى مستوى
إزالة الأصفار الستة أمام الدولار، وشهدت
تركيا بحبوحة اقتصادية جعلتها من بين
الاقتصاديات النامية في العالم.
لكنّ المشكلات التي عصفت بتركيا والعالم، من كورونا وزلزال كهرمان
مرش، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، والتضييق الدولي على أنقرة، كبّد الاقتصاد
التركي خسائر كبيرة، فتراجع الوضع المعيشي، وزادت معاناة الناس، وصمد أردوغان في
مواجهة هبوط قيمة الليرة، وارتفاع سعر الفائدة، وأصرّ على خفض سعرها، حتى بلغ
التضخّم حداً لم يتمكّن فيه من كبح جماحه، فاضطربت سياساته الاقتصادية، وبدا
عاجزاً عن معالجة المشكلة، حتى جاء بفريق اقتصادي تمثّل بوزير الخزانة والمالية
محمد شيمشك، ومحافِظة البنك المركزي حفيظة غاية أركان، ثم بديلها فاتح قره خان،
وأطلق لهم العنان بوضع سياسات مالية تنقذ البلد، وهي السياسات التي أرهقت كاهل
المواطن وزادت من معاناته، وهو الذي يئن تحت وطأة الغلاء وارتفاع الأسعار وقلة
الرواتب وانخفاض قدرته الشرائية.
ـ "ثورة المتقاعدين" كما سمّاها
القيادي في حزب العدالة والتنمية ياسين أقطاي، الذي قال: “لم تأتِ القوة التغييرية
من الجيل “Z” (جيل الشباب العشرينيّ) كما كان متوقّعاً، بل
من المتقاعدين"، وكان وزير المالية محمد شيمشك قد بدا وكأنه نسي نفسه حين
صرّح قبيل الانتخابات قائلاً: "على المتقاعدين أن يدركوا أن الحكومة لن
تتمكّن من رفع معاشات التقاعد"، وهو تصريح غريب في توقيته، استفزّ المتقاعدين
وجعل كثيراً منهم يعبّر عن غضبه في صندوق الاقتراع، خاصة وأنّ حزب "الرفاه من
جديد" تبنّى خطاباً مسانداً لحقوقهم.
ـ الموقف من الحرب على غزة:
لم يرض إسلاميو تركيا ومحافظوها، وهم الخزان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، عن سيل المواقف الكلامية، والاعتصامات المليونية، والمساعدات الطبية والغذائية، ورأوا في ذلك مواقف استعراضية لا تليق بتركيا التي لطالما وقفت مع فلسطين وأهلها، وطالبوا الرئيس أردوغان بمواقف أكثر جرأة في مواجهة آلة الإجرام الصهيوني.
لم يرض إسلاميو تركيا ومحافظوها، وهم
الخزان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، عن سيل المواقف الكلامية، والاعتصامات
المليونية، والمساعدات الطبية والغذائية، ورأوا في ذلك مواقف استعراضية لا تليق
بتركيا التي لطالما وقفت مع فلسطين وأهلها، وطالبوا الرئيس أردوغان بمواقف أكثر
جرأة في مواجهة آلة الإجرام الصهيوني.
ـ الوضع الداخلي للحزب:
بعد أكثر من اثنين وعشرين عاماً في الحكم بدا
أنّ حزب العدالة والتنمية بحاجة لإعادة النظر في تقييم أدائه، وإعادة النظر في
آلياته وتحالفاته، فعلى مستوى الخط السياسي والمتبنّيات الفكرية تخلّى الحزب عن
كثير من مبادئه المحافظة إلى مواقف أكثر قومية، نتيجة الضغوط الانتخابية والضرورات
التحالفية، فبعد أن كان من أشد المدافعين عن اللاجئين وحقوقهم أخذ منحى متشدّداً
في التعامل معهم، وبعد أن بالغ في الانتصار للحريات والمظلومين، اضطرته ضغوط
السياسة والاقتصاد إلى التماهي مع المواقف الغربية، والضغوط الخليجية والأوروبية،
وأصبح أكثر قرباً في مواقفه الخارجية من محور مصر والسعودية والإمارات عربياً، ومن
أمريكا وأوروبا وإسرائيل غربياً، وهي مواقف لم يتكيّف معها المواطن التركي، الذي
رأى أنّ مرشحي العدالة والتنمية، وجلّهم من قدامى الحزبيين، لا يمثّلون طموحاته بالتغيير
والإصلاح.
ـ الخيارات البديلة:
وجد كثير من الناخبين الأتراك المحافظين، أو ذوي
الخلفية الإسلامية ضالتهم في حزب "الرفاه من جديد" للتعبير عن غضبهم من
الخيارات السياسية لحزب العدالة والتنمية، والفساد الإداري لعدد من قياداته،
فأعطوه أصواتهم، في خطوة تعبّر عن الاعتراض على حزب العدالة أكثر من تعبيرها عن
التأييد للحزب الجديد، فقد كان هؤلاء يشعرون بالامتعاض من ابتعاد أردوغان عن
ثوابته التي أيّدوه من أجلها، لكنهم لم يجدوا البديل في أحزاب ذات خلفية إسلامية
كأحزاب السعادة والمستقبل أو الديمقراطية والتقديم، التي أخذت خيارات لا تقلّ ابتعاداً
عن الثوابت من خيارات أردوغان، حتى جاء فاتح أربكان معلناً السير على خطى أبيه،
وإحياء الرفاه القديم، والتمسّك بثوابت الأمة، ورفض العلمانية وخيارات اليسار
التركي، وسياسات الحكومة التي تساهلت في إنصاف المهاجرين والانتصار للمظلومين
والوقوف إلى جانب فلسطين، فكافأه الناخب التركي بهذا الكمّ المفاجئ من الأصوات،
فهل يكون البديل، وتكون هذه الانتخابات هي آخر معارك أردوغان؟ هذا ما ستكشفه
الأيام.
خلاصة النتائج
خاض الأتراك الانتخابات الأخيرة وجبهة المعارضة واضحة ثابتة، توجّهت
بأصواتها إلى الحزب القادر على المواجهة، دون تشتيت أصواتها عند الأحزاب المساندة،
فكان لحزب الشعب الجمهوري نصيب الأسد فيها، بينما كانت جبهة حزب العدالة والتنمية
متردّدة يائسة غاضبة، انقسمت بين مقاطع ناقم، جلس في بيته ولم يشارك في الانتخاب،
ومعترض ألغى صوته الانتخابي بعبارات اعتراضية ظهرت بكثرة في صناديق الاقتراع،
وثائرون آثروا التعبير عن غضبهم بإعطاء أصواتهم لأحزاب أخرى لم يجدوا خيراً من حزب
"الرفاه من جديد" محلاً لها.
لكنّ من الإنصاف القول: إنّ الرئيس التركي،
وإن كان الخاسر، الأكبر في هذه الانتخابات، يبقى واحداً من كبار الرابحين حين توّج
بإنجاز هذا الاستحقاق الانتخابي 22 عاماً من الديمقراطية وتأكيد حرية الفرد في
بناء دولته واختيار قياداته، ليرسخ ميراث دولة مدنية يقول فيها الشعب كلمته بحرية
وكرامة، بعيداً عن سطوة العسكر وسلطة الدبابة، وما زال أمامه أربع سنوات يقرأ فيها
رسالة شعبه، ويعيد النظر في مسيرة حزبه، عساه يعي الدرس فيكون أقلّ براغماتية،
وأكثر استعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2028.