لأول مرة بعد أكثر من عقدين من حكم
تركيا، يمنى حزب العدالة والتنمية بخسارة انتخابية ثقيلة في
الانتخابات البلدية التي حصلت يوم 31 آذار/مارس 2024، وفي خطاب الشرفة الذي توجه به الرئيس أردوغان لجمهور الحزب إثر إعلان النتائج الأولية، أكد أن رسالة الناخبين قد وصلت إلى الحزب وقيادته وسيأخذها بعين الاعتبار، وسيجري نقدا ذاتيا من أجل المراجعة والتدارك، وتأكد هذا التوجة بما صدر عن أعلى هيئة مركزية للحزب برئاسة أردوغان نفسه.
فما الذي أدى يا ترى بالحزب إلى هذه النتيجة، رغم تحوله إلى ظاهرة
انتخابية فريدة في العالم من حيث استمراره في الحكم بأغلبية مطلقة 22 سنة، وكلما خاض
منافسة انتخابية إلا وازدادت نسبة فوزه بدل تناقصها على عكس ما يسببه الحكم من
تهرئة؟
وهل هناك إمكانية للتدارك، أم هي سنن التاريخ التي بدأت تسمع وقع
خطوات حزب الرفاه الجديد نحو وراثة حزب العدالة والتنمية، وحكم تركيا على حد تعبير
رئيسه فاتح أربكان إثر إعلان النتائج؟
لقد تعددت القراءات للنتائج بين من يرجعها لأسباب بنيوية عميقة في
الخيارات والسياسات العامة والحزبية، ومن يعللها بمواقف وخيارات طارئة ومستجدة.
وبين هذا وذاك، فإن الصناديق قد باحت بنتيجة ثقيلة في علاقة بالعملية
الانتخابية عموما وبحزب العدالة والتنمية خصوصا، حيث تعد من أقل نسب المشاركة
78%، مقارنة بالانتخابات البلدية الحاصلة طيلة العقدين الماضيين، فقد أمسك عن
المشاركة قرابة تسعة ملايين ناخب.
كما أنه لأول مرة منذ عقود، يحقق فيها حزب الشعب الجمهوي نسبة فوز بـ 37,5%
ويحصل على إدارة 36 بلدية، منها مدن كبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير بعد أن كان
يدير 20 بلدية، هذا بالإضافة إلى حصوله على الأغلبية في مجالس إدارة بلديتي إسطنبول
وأنقرة، بعد أن كانت الأغلبية لصالح العدالة والتنمية وحلفائه في انتخابات 2019.
أما حزب العدالة والتنمية، فقد حصل على نسبة 35,6% من الأصوات بتراجع
بـ 2,3 مليون صوت تقريبا مقارنة بنتائج آخر انتخابات بلدية، حيث خسر رئاسة 16 بلدية
مقارنة بنتائج 2019 من 39 بلدية إلى 23 وحليفه الرئسي حزب الحركة القومية من 11 إلى
8
بلديات. كما تحصل حزب الرفاه الجديد على 6,1% من الأصوات ورئاسة بلديتين إحداهما
كبرى، وتحصل حزب مساوة وديمقراطية الشعوب الكردي وريث حزب الشعوب الديمقراطي على
رئاسة 10 بلديات، بعد أن كان سلفه قد تحصل على 8 بلديات سنة 2019.
ورغم عدم أهمية الانتخابات البلدية مقارنة بالتشريعية والرئاسية، إلا أن
دلالاتها عميقة ودروسها بليغة؛ بسبب ما تقدمه من مؤشرات عن التحولات التي تعتمل
داخل المجتمع، وانعكاساتها المستقبلية المنتظرة التي يمكن إجمالها فيما يلي:
1 ـ رسوخ الديمقراطية والاحتكام للصندوق، والالتزام باحترام إرادة الشعب من خلال سلوك المتنافسين الفائز منهم والمنهزم، سواء
كان في السلطة أو خارجها، وخاصة من في السلطة الذي سارع بإعلان قبوله بالنتائج، رغم أنها
في غير صالحه مثل ما كان يفعل معارضوه في المحطات السابقة، وهو مكسب أساسي لتركيا
وللشعب التركي، الذي راكم النضالات من أجله لعقود، آخرها وأهمها إفشال المحاولة
الانقلابية في تموز / يوليو 2016.
2 ـ ما حصل هو تصويت عقابي للعدالة والتنمية، أدى إلى هزيمة ذاتية
وانتصار هش للمعارضة، والراجح أن عقاب
الناخبين المحافظين لحزب العدالة والتنمية، حصل أساسا بسبب ضعف موقفه تجاه الهولوكوست
الصهيوني في غزة، فمزاج الناخب في العملية الانتخابية تشكله العاطفة والانطباعية، حيث
حصل لدى الناخبين المحافظين الأتراك، أن حزبهم وقيادته السياسية والدولة التي
يقودها مقصر في دعم غزة ومقاومتها وشعبها، مقارنة بمواقفه من الاعتداءات الصهيونية السابقة، وخاصة مواقف رئيس الدولة، وذلك من
خلال استمرار المعاملات الاقتصادية والعسكرية مع الكيان، رغم أن الموقف التركي
يعدّ الأفضل تقريبا مقارنة بمواقف دول
الطوق وخاصة الدول العربية، حيث أعلنت رفضها وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واتخذت بعض الخطوات المهمة.
ما حصل يطرح في العمق قضايا استراتيجية ذات علاقة بمستقبل حزب العدالة والتنمية وربما مستقبل التجربة التركية التي أصبحت نموذجا لنجاح المزاوجة بين الإسلام والديقراطية والقدرة من خلالها على الإنجاز والنجاح الذي جعلته نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في مهب الريح..
وقد أدّت الدعاية الانتخابية من جانب الأحزاب المحافظة والمنافسة
للعدالة والتنمية، دورا مهما في التعبئة ضده على هذا الأساس، مما جعل الناخبين
يعبرون بأكثر من صيغة عن موقفهم بالامتناع عن المشاركة، أو بالتصويت السلبي بكتابة
غزة على الورقة، أو بالتصويت لمنافسيه من الأحزاب المحافظة وأساسا للرفاه الجديد. هذه القراءة الراجحة تبين أن هدف الناخبين اقتصر على معاقبة حزبهم، دون التصويت
لخصمه حزب الشعب الجمهوري، الذي يعدّ موقفه من غزة أسوأ بكثير من العدالة
والتنمية، فكانت هزيمة العدالة والتنمية ذاتية من داخل خزانه الانتخابي بنزعة
عقابية، زاد في تعميقها التراجع الاقتصادي بسبب التضخم الذي لم تقدر حكومات الحزب
وحلفاؤه على التحكم فيه وفي انعكاساته، الذي أثر في شرائح كثيرة، وخاصة المتقاعدين
الذين يصل عددهم إلى 15 مليون.
أما الرفاه الجديد، الذي اختلف مع العدالة والتنمية وفك التحالف معه
بسبب فشل المفاوضات حول عدد البلديات الذي طلبه، فإن حصوله على6,1% على أهميته مع
بداية دخول معترك المنافسات الانتخابية، إلا أنه من المبكر بل من الخفة السياسية
الحديث عن وراثته لحزب العدالة والتنمية، مثلما صرح بذلك رئيسه غداة إعلان النتائج
الأولية.
أما حزب الشعب الجمهورى، ومن ورائه حلفاؤه الذين كانت حصيلتهم هزيلة، فالحزب الجيد وحزب داوود أغلو وحزب علي بابجان والسعادة، انحصرت نتائجهم في الواحد
فاصل أو ما دونه، ويبقى الفوز الذي حصل عليه الشعب الجمهوري فوزا هشا غير قابل
للتطوير، إلا في حالة عدم استيعاب حزب العدالة والتنمية للدرس وتجنب "غلطة
الشاطر" كما يقال التي وقع فيها، حيث كان بإمكانه التدارك في موضوع غزة، قبل
وقوع المحذور ولم يفعل، رغم الخبرة الانتخابية التي اكتسبها طيلة العقدين الماضيين.
3 ـ ما حصل يطرح في العمق قضايا استراتيجية ذات علاقة بمستقبل حزب
العدالة والتنمية، وربما مستقبل التجربة التركية التي أصبحت نموذجا لنجاح المزاوجة
بين الإسلام والديقراطية، والقدرة من خلالها على الإنجاز والنجاح، الذي جعلته نتائج
الانتخابات البلدية الأخيرة في مهب الريح، بما جعل رئيس الحزب السيد أردوغان يعلن
في اجتماع أعلى هيئة مركزية للحزب، أنه غير مقبول أن يتسبب أيّ كان مهما كان موقعه
ودون استثناء في تبديد رصيد 22 سنة من الجهد.
ولكن ماهي التحديات؟ وهل يقدر الحزب على تجاوزها لضمان الاستمرارية
والريادة؟
الواضح أن الحزب يواجه تحدي التجديد وتحدي الفراغ القيادي وتحدي
القدرة على المحافظة على النجاعة في إدارة الحكم.
أما بخصوص التجديد، فإن بنيته التحتية التنظيمية والهيكلية يبدو أنها
قد ترهلت بسبب تهرئة الحكم وأمراضه ذات الصلة بالصراعات والتموقعات والتكتلات
والمنافع والمصالح، رغم ما تبدو عليه مؤسسات الحزب من قوة وقدرة على المتابعة والمعالجة والردع، ثم النقد الذاتي
الدوري للأداء الفردي والجماعي والمراجعات الضرورية، وآخرها المراجعة الشاملة التي
حصلت سنة 2018، إلا أنها لم تحقق النجاعة الكافية؛ لأنها لم تحصل ضمن خيارات واضحة
ومعايير محددة. أما القول بأن غياب الكتلة الأيديولوجية في الجزب هو السبب الرئيسي
لتراجعه، فإن فيه شيئا من المغالطة والمبالغة؛ لأن الحزب في جوهره يستند للأيديولوجيا
الإسلامية، وهو النسخة المتطورة للحركة الإسلامية التركية من النورسي إلى أربكان ثم
أردوغان.
ويبقى تحدي الفراغ القيادي هو العقدة؛ لأنه يحيل مباشرة على وضعية
رئيس الحزب رئيس الدولة، ويطرح في العمق إشكالية
الزعامة في الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، التي كانت ولا زالت سلاحا ذا حدين بين
دورها كرافعة للحزب في أثناء تطوره، ثم تحولها في لحظة ما إلى عبء عليه، وغالبا ما يحصل
ذلك بسبب تشبث الزعيم بالاستمرار في موقعه، حتى وإن كان بتطويع القانون أو تجاوزه، وبقطع النظر عن المبادئ والأفكار والقناعات التي يحملها، مع اجتهاده في إحداث
الفراغ القيادي من حوله باستبعاد كل منافس محتمل. وقد حصل شيء من هذا في حالة
العدالة والتنمية وزعيمه الذي إلى حد الآن لم يدرك لحظة فسح المجال لغيره، وإنفاذ التداول إعلاء لشأن المؤسسة مقابل الفرد، حتى وإن كان الزعيم نفسه، وذلك لضمان استمرارية الحزب ومشروعه.
والمؤلم، أن هذا الوضع لا يشذ به حزب العدالة والتنمية عن غيره من الأحزاب
والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، مثلما حصل في ماليزيا وغيرها، رغم
ما وصل إليه الفكر البشري من تصورات وآليات ونماذج عملية لتجاوز هذه العقدة
المدمرة.
أما التحدي الثالث، فهو القدرة على المحافظة على النجاعة في إدارة
الحكم، فما تحقق من نجاح لتركيا يمثل قمة الإنجاز رغم الصعوبات والعراقيل، ولكن الأصعب
منه هو المحافظة عليه في ظل ضغوطات الواقع والتحولات الاجتماعية والأزمات
الاقتصادية، وانعكاسات الأوضاع الدولية والإقليمية، وهو الاختبار الأصعب الذي يواجهه
العدالة والتنمية، من حيث تجديد الرؤى والخيارات والتوجهات والقدرة على الاستشراف
وفتح الآفاق.
فهل يعي الدرس ويقدر على رفع التحديات وتأكيد قدرته على التجدد
وتجاوز المطبات القادمة بسلاسة ونجاعة، في غضون الخمسة سنوات القادمة استعدادا
للاستحقاق الرئاسي والتشريعي 2028، أم ستسري عليه سنن التاريخ التي لا مناص منها في
حال استمر على ما هو عليه من تخبط وتكرار لنفسه وجموده؟