انعقدت الجمعية العمومية السادسة للاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين، في واحد من أكبر فنادق الدوحة، بحضور زهاء ستمائة وخمسين
عالماً جاؤوا من أقطار الدنيا في السادس من يناير 2024 ليناقشوا أوضاع العالم
الإسلامي، وينتخبوا رئيس الاتحاد ونوّابه الستّة ومجلس أمناء يتكوّن من واحد
وثلاثين عالماً، في إجراء يؤكّد صلابة البنية الإدارية ومتانة الهيكل التنظيمي
لهذه المؤسسة العالمية وقدرتها على الاستمرار، مع إيمان علماء الأمّة وقيادات
الاتحاد بأهمّية جمع علماء العالم الإسلامي وتوجيه طاقاتهم والتنسيق فيما بينهم،
لتعزيز الوسطية، ومحاربة التطرف، ومواجهة التحلّل، والحفاظ على هُويّة الأمّة،
والمساهمة في عمارة الأرض وتعزيز قيم العدل والمساواة وكرامة الإنسان.
انتخابات نظامية وقيادة جديدة
أكّد المجتمعون ثباتهم على القيم التي قام
عليها الاتحاد والمبادئ التي دعا إليها مؤسّسه وواضع أهدافه والأفكار الرئيسة في
نظامه الأساسي فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى، وجرت الانتخابات التي
أدّت إلى التّجديد للقيادة العلمائية التي كانت تمسك بمقاليد التأثير في الاتحاد
ومساره وقراراته، في جوٍّ من الألفة والتسامح والتعاون، الأمر الذي يدلّ بشكل واضح
على إرادة علمائية دولية واسعة، بل شاملة، على تيسير العمليّة الانتخابيّة وتجنّب
الإساءة إليها بالطعن أو الاعتراض، رغم ما شاب العملية الانتخابية من ملاحظات إدارية
كان بالإمكان تجاوزها! إيماناً منهم بأنّ الاتحاد ضرورة، واجتماع العلماء واجب،
والتعاون من أجل تحقيق مصالح الأمّة أمرٌ لا بدّ منه. فما المبرّرات التي جعلت
علماء المسلمين يحضرون من مشارق الأرض ومغاربها هذا الاجتماع؟ وما الذي يدعوهم إلى
التجديد للقيادات العلمائية في الاتحاد: (الرئيس ونوّابه، ومعظم أعضاء مجلس
الأمناء)؟ هل هي الثقة بالمسار والإنجاز؟ أم أنّها اللعبة الديمقراطية وموازين
القوى والاصطفافات الانتخابية وتأثيرها في نتائج الانتخاب؟! وأيّاً كان الجواب،
فقد جرت الانتخابات، وصُدِّقت النتائج، وبتنا أمام واقع جديد، يواجه الاتحاد فيه
عقبات وتحدّيات، وعليه معها واجبات ومسؤوليات.
أحدث اجتماع علماء الإسلام تحت مظلّة الاتحاد ضجّة عالمية أزعجت أعداء الأمّة وكثيراً من أصحاب المصالح فيها، فاستشعر كثير من السّاسة الخطر على عروشهم ومصالحهم، وبادر عدد من الأجهزة الحكوميّة والأمنيّة إلى إعلان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تنظيماً إرهابياً
الوحدة الخطرة من منظورين
قام الاتحاد وفي نظامه التأسيسي التأكيد على
التقريب بين علماء المسلمين وتوحيد جهودهم، والتركيز على المشتركات الجامعة بين
مكوّناتهم، ونبذ كلّ ما يدعو إلى الفرقة والخلاف بينهم، بسبب تعدّد انتماءاتهم
الفكرية والمذهبية والجهوية، لمواجهة التحدّيات الدّاهمة، ومحاربة الانحرافات
القائمة، ومقارعة التوجّهات الهدّامة، وما أكثرها! فكان في الهيئة العامّة للاتحاد
من العلماء الرّسمي والحركي، والصّوفي والسّلفي، كما فيها السُّني والشّيعي
والأباضي، وكان من نوّاب الرئيس الموريتاني السني الشيخ عبد الله بن بيّه،
والشيعيان الإيرانيان محمد علي التسخيري وآية الله محمد واعظ زاده، والأباضي
العُماني المفتي الشيخ أحمد الخليلي. وقد ساهم هذا الانفتاح بين العلماء رغم تنوّع
ولاءاتهم الفكرية والمذهبية في إحداث صدمة إيجابية ساعدت في كسر كثير من الحواجز
بينهم، وتشجيع الحوار والتقارب والتعاون بين مكوّنات الأمّة في العديد من
الملفّات، فالتقى الصّوفي بالسّلفي، وتعاون الرّسمي مع الحركي، وفتح علماء السنة
قنوات الحوار الجادّ مع إخوانهم من الأباضية والإثنا عشرية.
أحدث اجتماع علماء الإسلام تحت مظلّة
الاتحاد ضجّة عالمية أزعجت أعداء الأمّة وكثيراً من أصحاب المصالح فيها، فاستشعر
كثير من السّاسة الخطر على عروشهم ومصالحهم، وبادر عدد من الأجهزة الحكوميّة
والأمنيّة إلى إعلان
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تنظيماً إرهابياً، وملاحقة
رجالاته، واستجلاب الفتاوى التي ترى في الاتحاد "تجمّعاً حزبياً يثير الفتن
ويرعى مصالح بعض الدّول"، وسعت دولٌ معروفة لتجفيف منابعه، وتشويه صورته،
والتضييق على علمائه بالحجر أو السجن أو المنع من السفر، حتى تضيق دائرة الاتحاد
فلا تتّسع إلا لمذهب دون سواه، وفئة من العلماء دون غيرهم! ولا أشكّ في أنّ هذه
الأجهزة كان لها أثر في إثارة النّزغات العصبية، وبواعث الفرقة الجهوية والخلافات
المذهبية، حيناً هنا وأحياناً هناك، غير أنّ المبادئ الصّلبة التي قام عليها
الاتحاد، والليونة التي حكمت نظمه ولوائحه، مع الحكمة البالغة لقيادته، ساهمت في
تقليل حجم الخسائر، بالمحافظة على حدٍّ كبير من التّنوع في هيئات الاتحاد وأطره
العامّة والقيادية، فقد أدركت هذه القيادة خطورة أن يصطبغ الاتحاد بصبغة محدودة،
أو أن تقتصر عضويته على مذهب فقهي أو فكري. والمعوّل عليه أن يبقى هذا التنوّع
هدفاً كبيراً يحرص عليه علماء الاتحاد ورئاسته وأمانته العامّة ومجلس أمنائه اليوم
وغداً.
الوحدة قرين التوحيد
إنّ التحدّيات التي يعيشها المسلمون بلغت من
التعقيد حدّاً أصبح الاجتماع من أجل مواجهتها في حكم الضرورة الواقعيّة والواجب
الشرعي، فهي تحدّيات تطال المبدأ والدّين، والأخلاق والأسرة، والأرض والثروة،
والوجود والكرامة، تُعقَد من أجلها
مؤتمرات علمية، وتخطِّط لتنفيذها مراكز بحثية،
وتدعمها دول وحكومات، وتحميها جيوش ومؤسّسات، وليس هناك أولى من اتحاد عالمي لدعم
مشاريع الوحدة التي تجمع أبناء المذهب الواحد بتوجّهاتهم المختلفة، ثمّ المذاهب
المتعدّدة تحت سقف الإسلام، بل والطوائف المتباينة ضمن إطار الأمّة، فبذلك ننهض بأمّتنا
ونحمي بيضتها، ونصون قيمها وأجيالها، على أساس التكامل والتعاون والتضامن، تحت
شعار: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتحاور فيما اختلفنا فيه"، و"خلاف الرّأي لا يفسد للودّ قضية"،
مع توفّر الهدف الواحد في مواجهة العدوّ الواحد. فإنّما تنهض الأمّة بوحدتها، على
أساس الثوابت والمبادئ، وأساسيات العقيدة وأصول الدين. ولا يمكن أن نحقّق التوحيد
في الأمّة إلا بالمزيد من دعائم الوحدة على مستوى مكوّناتها، فالتوحيد والوحدة
صنوان، لا يقوم أحدهما دون الآخر، لأنّه لا وحدة إلا بتوحيدٍ يضبط ويوجّه، ولا
توحيد إلا بوحدةٍ تحمي وتسند وتمنع.
وهي دعوة لقيادة الاتحاد، التي نعرف فيها
الحرص على التوحيد والوحدة، أن تبقي هذا الموضوع في رأس سلّم أولويّاتها، وللعلماء
العاملين، الموقّعين عن ربّ العالمين، أن يحرصوا على ما أمر الله به من وحدةٍ
واعتصامٍ، سعياً إليه والتزاماً به، وما حذّر النبي ﷺ منه، من فرقة وشقاق، حذراً
منه وابتعاداً عنه.